
سورة الليل
في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم، وتنويه بصالح العمل وأصحابه، وتنديد بسيء العمل وأصحابه وإنذارهم. وفيها تنويه بمن يتزكّى بماله، وتنديد بالبخل والمنع. وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضا عاما للدعوة وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية. وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ١٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)
. (١) يغشى: يغطي أو يخيم أو ينتشر.
(٢) تجلى: ظهر أو انكشف أو برز.
(٣) شتى: جمع شتيت بمعنى أنواع مختلفة.
(٤) الحسنى: مؤنث الأحسن. ومن المفسرين من أوّل جملة وَصَدَّقَ صفحة رقم 525

بِالْحُسْنى
بمعنى صدق بوعد الله بزيادة الإخلاف على المنفقين. ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالموعود الأحسن من الله، ومنهم من أوّلها بمعنى صدق بالجنة التي وعد الله المؤمنين المحسنين «١».
(٥) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل.
(٦) استغنى: شعر بالغنى عن غيره أو عن الله بما صار عنده من مال.
(٧) العسرى: مؤنث الأعسر أي الأشق الأصعب.
(٨) تردى: سقط أو هوى من عال.
الخطاب في الآيات موجه إلى السامعين بأسلوب مطلق وتقريري. وقد تضمنت:
١- قسما ربانيا بالليل إذا خيم والنهار إذا انجلى، وما خلق الله من ذكر وأنثى إن الناس في سلوكهم وأعمالهم أنواع. منهم المؤمن بالله والمتصدق بماله والمصدق بوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل اليسرى التي فيها النجاة والسعادة. ومنهم البخيل الذي يستشعر الغنى عن غيره وربه، البخيل بماله الجاحد لوعود الله الحسنى في الدنيا والآخرة. وهذا ييسره الله في السبيل العسرى التي فيها الهلاك والخسران ولن يغني عنه ماله ويقيه السقوط والتردي في ذلك المصير الرهيب.
٢- وتقريرا ربانيا بأن ما للناس على الله هو أن يبين لهم طريق الهدى والخير ويدلهم عليه ويحذرهم من طريق الضلال والشر، وبأن أمر الدنيا والآخرة في يده وهو المتصرف فيهما تصرفا مطلقا.
والآيات كما هو ظاهر بسبيل الدعوة العامة للناس. وليس فيها مواقف ومشاهد حجاجية وتكذيبية. وفيها مبادئ هذه الدعوة بإيجاز بليغ وهي الإيمان بالله وتصديق وعود الله والعمل الصالح ونفع الغير ومساعدتهم وعدم البخل بالمال بسبيل ذلك مع التنبيه على أن هذا المال لن يغني عنه شيئا إذا لم يستجب للدعوة

ويلتزم بمبادئها. فمن فعل ذلك فهو ناج سعيد ومن فعل العكس فهو خاسر شقي.
وقد انطوى فيها حكمة إرسال الله الرسل للناس ليبين لهم بلسانهم معالم الهدى. كما انطوى فيها تقرير كون الناس موكولين بعد ذلك إلى اختيارهم للطريق التي يسيرون فيها ومستحقين للنتائج التي تترتب على هذا الاختيار في الدنيا والآخرة معا. وكل هذا مما تكرر تقريره بحيث يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآيات حديثا عن علي بن أبي طالب قال: «كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة فقال ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا يا رسول الله أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل. قال اعملوا فكلّ ميسّرّ لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشّقاء ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) [الليل/ ٥- ٧] » «١». والحديث ينطوي على إيذان بعلم الله عز وجل الأزلي بمصير كل إنسان في الآخرة وليس في كون الله عز وجل قد قدر على الناس مصائرهم الأخروية بقطع النظر عن أعمالهم التي يستحقون هذه المصائر بسببها كما هو المتبادر. وهذا ما ينطوي في الآيات أيضا حين إمعان النظر فيها. حيث يربط الآيات والحديث السعادة والشقاء بالعمل فمن عمل عمل أهل السعادة سعد ومن عمل عمل أهل الشقاء شقي.
وهذا الموضوع متصل بناحية ما بموضوع القدر الذي سوف نبحثه بحثا وافيا في مناسبة أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى
وجملة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى التي جمع فيها من الذكر والأنثى في القسم قرينة