آيات من القرآن الكريم

وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
ﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩ ﮫﮬ

سورة البلد
في السورة تنديد بالذين يقفون موقف المشاقّة والمشاكسة ويتباهون بأموالهم غير حاسبين حساب العاقبة. وتقرير لقابلية الإنسان للاختيار بين الخير والشر.
وحثّ على الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة والمكرمات الأخرى وفي مقدمتها عتق الرقيق. وأسلوبها عام إجمالا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
. (١) البلد: المقصود منها مكة على ما هو جمهور المفسرين.
(٢) حلّ: تعددت أقوال المفسرين في تأويل الكلمة «١»، منها أنها بمعنى الحالّ المقيم وأن الآية بسبيل التنويه بشرف مكة بحلول النبي عليه السلام أو بعثته فيها. ومن ذلك التحليل- ضد التحريم وأن الآية بسبيل التنديد بأهل مكة الذين يستحلّون أذى النبي والمؤمنين وإخراجهم ومناوأة دعوة الله في البلد الذي حرّم فيه الظلم. ومن ذلك أن النبي في حلّ مما يفعله في مكة مما هو محرّم على غيره من قتال.
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والنسفي والنيسابوري إلخ.

صفحة رقم 253

ونحن نرجّح المعنى الأول لأنه متساوق مع مفهوم القسم الذي بدأت به السورة فالله سبحانه يقسم بمكة التي شرّفها الله بحلول النبي أو بعثته فيها. أما الرأي الثالثة فقد ذكره معظم المفسرين ناقلا بعضهم عن بعض على الأغلب. ورغم ذلك نراه غريبا.
فإن تحليل الله القتال لنبيه في مكة كان في السنة الثامنة للهجرة في سياق فتحها.
وبين هذه السورة وذلك الحادث سنون طويلة.
(٣) ووالد وما ولد: تعددت الأقوال التي أوردها المفسرون عن هذه الجملة. منها أنها قصدت آدم وذريته. ومنها أنها قصدت إبراهيم وذريته، ومنها أنها قصدت معناها الطبيعي العام. ولعلّ هذا هو الأوجه.
(٤) كبد: أصل معناها المشقة والشدة. وقد تعددت الأقوال التي أوردها المفسرون في معنى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ منها أنها في صدد بيان طبيعة الإنسان في المشاقة والمكابدة. ومنها أنها في صدد ما في الإنسان من القوى التي تساعده على تحمّل المشاق. ومنها أن تكون في صدد وصف ما يظل يتعرض له الإنسان من المحن ويندفع فيه من الكد والجهد في الحياة. ومنها أنها بمعنى انتصاب القامة الذي تميّز به الإنسان. ولعلّ الاحتمال الأول هو الأوجه.
(٥) لبدا: كثيرا ومتراكما.
(٦) النجدين: معظم المفسرين على أن النجدين هما طريقا الخير والشرّ.
وتكون جملة وَهَدَيْناهُ والحالة هذه بمعنى بينّا له.
في الآيات توكيد تقريري وتنديدي بأسلوب القسم لما جبل عليه الإنسان من طبيعة المشاقة والمكابدة، والاعتداد بقوته وماله ظانا أنه لا يراه أحد ولا يقدر عليه أحد في حين أن الله قد جعل له عينين ولسانا وشفتين تشهد عليه ويستطيع بها أن يميّز الخير من الشر، وفي حين أن الله بيّن له معالم طريقي الخير والشر، وأن الأجدر به أن لا يغترّ ولا يعتدّ ولا يشاقق وأن يختار أفضل الطرق وأقومها.
وقد روى بعض المفسرين أنها نزلت بمناسبة موقف مكابرة وتبجح وقفه أبو الأسد بن كلدة أحد زعماء مكة وأغنياءها وفاخر فيه بما أنفقه من مال في مناوأة

صفحة رقم 254

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١» وصحة الرواية محتملة، غير أن أسلوب الآيات عام مطلق، ويتبادر أن الموقف المروي كان مناسبة لنزول الآيات متضمنة تنديدا عاما بمثل خلق هذا الزعيم وموقفه، وهذا ما يلحظ في مناسبات كثيرة.
تعليق على عبارة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ
وقد تفيد آية لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أن الله قد جبل الإنسان على هذا الطبع غير المستحب، ولقد احتوى القرآن آيات عديدة أخرى تضمنت التنديد بالطبائع غير المستحبة في الإنسان بأسلوب قد يفيد أن الله قد خلق الإنسان على هذه الطبائع مثل آيات سورة المعارج هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) وآية سورة الإسراء هذه: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (١١) وآية الكهف هذه: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وآيات سورة العاديات هذه: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) وآيات سورة الفجر هذه كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) ويلحظ أن الآيات جاءت في معرض التنديد والتقريع للناس بسبب هذه الطباع مما يثير تساؤلا عمّا إذا كان من المعقول أن يندد الله سبحانه بطبائع خلق الإنسان عليها؟ والمتبادر الذي يلهمه تنديد القرآن بهذه الطبائع ويلهمه سياق الآيات وروحها أن هذه الآيات صيغ أسلوبية مما اعتاد الناس أن يخاطبوا بعضهم

(١) انظر تفسيرها في تفسير مجمع البيان للطبرسي. والمفسر يروي رواية أخرى جاء فيها أن الآية عنت شخصا من المسلمين اسمه الحرث بن عامر أذنب ذنبا فاستفتى النبي فأمره أن يكفّر عنه فقال: ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد. والرواية الأولى أكثر احتمالا للصحة.

صفحة رقم 255

بعضا بها وأن المقصد الحقيقي منها هو التنديد بما يبدو من كثير من الناس من مثل هذه الأخلاق والطبائع غير المستحبة، وأنه لا ينبغي حملها على محمل قصد بيان أن الله قد خلق الإنسان أو تعمد خلقه على هذه الطبائع التي ندّد بها في مختلف المناسبات القرآنية ولا سيما أن الله سبحانه قد نبّه في سياق الآية التي نحن في صددها وفي المناسبات المماثلة أن الله بيّن للناس طريقي الخير والشرّ والتقوى والفجور، وأوجد فيهم قابلية التمييز بينهما وجعلهم مسؤولين عن اختيارهم وسلوكهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ مما مرّ منه أمثلة عديدة في المناسبات السابقة.
تعليق على آية وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ
ومع ما قلناه في تأويل آية وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فإنها تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما أودعه الله عزّ وجلّ في الإنسان من عقل يستطيع أن يميز به بين الخير والشرّ ويختار بينهما، كما تحتمل أن يكون قصد بها أو انطوى فيها إشارة إلى ما في القرآن والدعوة النبوية من تبيان معالم الخير والشر والهدى والضلال والتقوى والفجور، وهذا الاحتمال لا ينقض ما تضمنته الآيات على كل حال من تقرير قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره كما هو واضح.
ولقد روى الطبري حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق الجملة جاء فيه: «إنما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير».
والمتبادر أن الحديث ينطوي على سؤال تعجبي أو تنديدي للذي يحبّ نجد الشر أكثر من نجد الخير حيث يدعم هذا معنى قابلية الاختيار في الإنسان ومسؤوليته عن اختياره.
تعليق على آيتي أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ
وقد ذكرنا معنيين لآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وهما أن هذه الجوارح أوجدها الله في الإنسان لتشهد على أفعاله أو تجعله يميز بين الخير

صفحة رقم 256
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية