آيات من القرآن الكريم

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ۚ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ۚ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

كفر الأعراب ونفاقهم وإيمانهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
الإعراب:
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، والدائرة في الأصل: مصدر أو اسم فاعل من دار يدور، سمي بها دورة الزمان، وهي هنا ما يحيط بالإنسان حتى لا يجد له منه مخلصا، وأضيفت إلى السوء (بضم السين وفتحها) للمبالغة والتأكيد والبيان، كقولهم: شمس النهار، ورجل صدق.
قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ قُرُباتٍ: مفعول ثان ليتخذ، وعِنْدَ اللَّهِ: صفتها، أو ظرف ليتخذ.
البلاغة:
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مجاز مرسل أي في جنته، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل أي محل الرحمة.
المفردات اللغوية:
الأعراب لفظ عام معناه الخصوص في جماعة من أهل البدو من العرب، والعرب: من ينطق بالعربية، سواء البدو والحضر وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة، وهي

صفحة رقم 12

من تهامة، فنسبوا إليها أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل المدن، لجفائهم وغلظ طباعهم، وبعدهم عن سماع القرآن وَأَجْدَرُ أحق وأولى أَلَّا يَعْلَمُوا بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الأحكام والشرائع عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه بهم.
مَغْرَماً غرامة وخسرانا لازما لأنه لا يرجو ثوابه، بل ينفقه خوفا، وهم أسد وغطفان وَيَتَرَبَّصُ ينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان ذات الضرر والسوء أن تنقلب عليكم فيتخلص من الإنفاق عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصونه، أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، أي يدور العذاب والهلاك عليهم، لا عليكم، والسوء: اسم لما يسوء ويضر وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال الناس ولما يقولون عند الإنفاق عَلِيمٌ بأفعالهم وبما يضمرون.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ كجهينة ومزينة قُرُباتٍ جمع قربة: وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويقصد بها هنا اتخاذ المنزلة والمكانة عند الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ جمع صلاة ويراد بها هنا دعاؤه واستغفاره، فالصلاة من الله تعالى: الرحمة والخير والبركة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب ٣٣/ ٤٣] والصلاة من الملائكة: الدعاء، وكذا هي من النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة ٩/ ١٠٣] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة أَلا استئناف بحرف التنبيه إِنَّها أي نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ أي تقرّبهم من رحمة الله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ جنته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٩٧) :
الْأَعْرابِ.. قال الواحدي: نزلت في أعاريب من أسد وغطفان، ومن أعاريب حاضري المدينة.
نزول الآية (٩٩) :
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ.. أخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد أنها نزلت في بني مقرّن الذين نزلت فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ. [التوبة ٩/ ٩٢] وأخرج عن عبد الرحمن بن معقل المزني قال: كنا عشرة ولد مقرّن، فنزلت فينا هذه الآية.

صفحة رقم 13

المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم بالمدينة، ذكر أحوال الأعراب خارج المدينة وهم سكان البادية، وأخبر أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. ويرى الرازي أن هذه الآيات كسابقتها مباشرة تخاطب منافقي الأعراب وأصحاب البوادي أي الصحاري. ويرى المفسرون الآخرون أن ما سبق كله في منافقي المدينة وهذا في منافقي الأعراب.
التفسير والبيان:
إن كفر بعض الأعراب سكان البادية ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأحرى وأولى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي فرائض الشرع لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا، وأكثر جهلا،
روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن»
ورواه أبو داود والبيهقي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا، وزاد فيه: «وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا»
لأن السلاطين لا يريدون غالبا النصح وصراحة القول، فلا يتقرب منهم إلا المراؤون عادة. والله عليم واسع العلم بأحوال خلقه من أهل المدن والبوادي، حكيم فيما شرعه لهم وفيما يجازي محسنهم ثوابا ومسيئهم عقابا.
وليس هذا طعنا في الأعراب وإنما هو وصف لأحوالهم، وذم لواقعهم ما داموا راضين به، وكل من نزل البادية فهم أعراب. وأما من استوطن القرى والبلاد فهم عرب، ولا يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «حب العرب إيمان» «١».

(١) حديث ضعيف رواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.

صفحة رقم 14

ومن الأعراب أناس ينفقون أموالهم رياء أو تقيّة، وتقربا للمسلمين ويعدون ذلك مغرما وخسارة لأنهم لا يرجعون به ثوابا عند الله، وينتظرون بكم الحوادث والآفات، فيتخلصون من الإنفاق، وقد كانوا يتوقعون انتصار المشركين على المؤمنين، فلما يئسوا انتظروا موت النبي صلى الله عليه وسلّم ظنا منهم أن الإسلام ينتهي بموته.
روي أنهم أسد وغطفان كانوا يفعلون ذلك. فرد الله عليهم: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي هي منعكسة عليهم، والسوء دائر عليهم وحدهم، أو أن هذا دعاء عليهم بنحو ما ينتظرونه في المسلمين، وقد تحقق هذا الدعاء، فدارت دائرة السوء والشر عليهم، وأصيبوا بالهزيمة والخيبة والخذلان، والله سميع لما يقولون عند الإنفاق، ولدعاء عباده عليهم، عليم بما يضمرون وبمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان، كما قال تعالى: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التوبة ٩/ ٥٢].
وكما أن في الأعراب كفارا ومنافقين، فيهم أيضا مؤمنون لقوله تعالى:
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ... أي وبعض آخر من الأعراب يؤمنون إيمانا صحيحا، مثل جهينة ومزينة، وبنو أسلم وغفار، وقال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ وهؤلاء الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله تعالى، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، أي صلواته.
ألا إن ذلك قربة حاصلة لهم، وهذا شهادة من الله بصحة معتقدهم، وتصديق لرجائهم وتمنيهم، على الاستئناف مع حرف التنبيه، وإنّ المحققة للنسبة. وضمير إِنَّها لنفقتهم.
سيدخلهم الله في رحمته أي في جنته ورضوانه، وهذا وعد لهم بإحاطة الرحمة

صفحة رقم 15

بهم، إن الله غفور رحيم واسع المغفرة والرحمة للمخلصين في أعمالهم، فهو يستر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى صالح الأعمال المؤدية إلى حسن الختام والمصير، وإحاطة الرحمة في هذه الآية أبلغ في إثباتها لهم في مثل قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة ٩/ ٢١].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. أما الكفار والمنافقون فهم أشد كفرا ونفاقا من غيرهم، بسبب قسوة البيئة التي يعيشون فيها، وضعف مستوى الثقافة والمعرفة والعلم في أوساطهم، مما يجعلهم قساة الطباع والأكباد والقلوب، ويرتعون في مفاسد الجهل والأهواء ونقص السياسة والتأديب.
وهم أيضا لذلك أولى بألا يعلموا حدود الشرائع ومقادير التكاليف والأحكام وما أنزله الله على رسوله بالوحي الثابت.
وترتب على ذلك أحكام ثلاثة «١» :
أولها- لا حق لهم في الفيء والغنيمة، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم من حديث بريدة: «ثم أدعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم بأنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين».

(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٣٢

صفحة رقم 16

وثانيها- إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعى كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا، قال القرطبي: وهو الصحيح.
وثالثها- أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة، وتركهم الجمعة. وقال الشافعي والحنيفة: الصلاة خلف الأعرابي جائزة.
ومن الأعراب جماعة منافقون يعدون النفقة خسارة، وينتظرون أن تحيط الدواهي والمصائب والحوادث بالمسلمين ليتخلصوا من الإنفاق. فقوله:
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني الموت والقتل، وانتظار موت الرسول صلى الله عليه وسلّم، وانتصار المشركين. ولكن الأمر سيكون بالعكس مما يتوقعون، فعليهم وحدهم دائرة العذاب والبلاء.
وبعض آخرون من الأعراب مؤمنون، وصفهم الله بوصفين:
الأول: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر، وهذا دليل على أنه لا بد في جميع الطاعات حتى الجهاد من تقدم الإيمان.
والثاني: كونهم ينفقون أموالهم تقربا إلى الله تعالى، وبقصد التوصل إلى صلوات الرسول صلى الله عليه وسلّم أي استغفاره ودعائه لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم،
كقوله: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
وقال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ كما تقدم.
وقد شهد الله تعالى بقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، أي إن نفقاتهم تقربهم من رحمة الله، وذلك حاصل لهم، وهو وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد.

صفحة رقم 17
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية