آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْقِمُونَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقوله النَّابِغَةُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صَدَرَتِ الْجِنَايَةُ الْعَظِيمَةُ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا فَازُوا بِالْخَيْرِ، فَأَمَّا أَنَّهُمْ تَابُوا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَالُوهُ فِي تَوْبَةِ الْجُلَاسِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَمَعْلُومٌ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ صَارُوا مِثْلَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ وَسَبْيُ أَوْلَادِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ بِمَا يَنَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْقَبْرِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يَعْنِي أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ إِذَا حُقَّ لَمْ يَنْفَعْهُ وَلِيٌّ ولا نصير.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
[في قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ] [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَكْثَرُهَا فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ وَأَصْنَافٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَذْكُرُهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَقُولُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التَّوْبَةِ: ٦١]- وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: ٥٨]- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَةِ: ٤٩]- وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ أَبْطَأَ عَنْهُ مَالُهُ بِالشَّأْمِ، فَلَحِقَهُ شِدَّةٌ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِبَعْضِ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَأَصَّدَّقَنَّ وَلَأُؤَدِّيَنَّ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» فَرَاجَعَهُ وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَدَعَا لَهُ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا بِهَا، فَجَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَرَكَ الْجُمُعَةَ. وَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِ فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» فنزل قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ فَخُذَا صَدَقَاتِهِ» فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمَا: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَدْفَعِ الصَّدَقَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَأَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى

صفحة رقم 105

رَأْسِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ قُلْتُ لَكَ فَمَا أَطَعْتَنِي» فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقُبِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ بِصَدَقَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُمَرُ اقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُثْمَانُ،
وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا مِنْهُ؟
قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ بِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، لِهَذَا السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَكَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي ثَعْلَبَةَ مَعَ نِفَاقِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ عَاهَدَ اللَّهَ فِي أَنَّهُ لَوْ آتَاهُ مَالًا لَصَرَفَ بَعْضَهُ إِلَى مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ الْمَالَ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مَا وَفَى بِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهَهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ تَعَالَى؟
وَالْجَوَابُ: الْمُنَافِقُ قَدْ يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِكَوْنِهِ عَارِفًا بِاللَّهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ، وَلِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ كَافِرًا. وَكَيْفَ لَا أَقُولُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ هَذَا الْعَالَمِ مَقْرُونٌ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ؟ وَيَقِلُّ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُهُ، وَالْكُلُّ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ حِينَ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لَمَّا بَخِلَ بِالْمَالِ، وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ أَنْ يَحْصُلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، أَوْ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّلَفُّظِ حَتَّى لَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ؟
الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَكِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعَهْدِ.
يُرْوَى عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سليمان قَالَ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَنَذَرَ قَوْمٌ مِنَّا أَنْوَاعًا مِنَ النُّذُورِ، وَنَوَيْتُ أَنَا شَيْئًا وَمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ سَأَلْتُ أَبِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ فِ بِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ قَوْلَهُ:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ كَانَ شَيْئًا نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ/ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْمُعَاهَدَةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا حَصَلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا وَلَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ»
أَوْ لَفْظُ هَذَا مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إِخْبَارٌ عَنْ تَكَلُّمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ الْمُرَادُ مِنْهُ إِخْرَاجُ مَالٍ، ثُمَّ إِنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ عَلَى قِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَالْوَاجِبُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِخْرَاجِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَقِسْمٌ لَمْ يَجِبْ إِلَّا إِذَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مِثْلُ النُّذُورِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، فَقَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كذلك؟

صفحة رقم 106

وَالْجَوَابُ: قُلْنَا أَمَّا الصَّدَقَاتُ الَّتِي لَا تَكُونُ وَاجِبَةً، فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: بَخِلُوا بِهِ وَالْبُخْلُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْوَاجِبِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِهَذَا التَّرْكِ وَتَارِكُ الْمَنْدُوبِ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ. وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْبَاقِيَانِ، فَالَّذِي يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالْمَالِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَى إِنْفَاقِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَالْمَالِ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ، كَانَ قَدِ الْتَزَمَ إِخْرَاجَ مَالٍ عَلَى سَبِيلِ النَّذْرِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي اللَّفْظِ لَيْسَ إِلَّا قَوْلَهُ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَهَذَا لَا يُشْعِرُ بِالنَّذْرِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُعَاهِدُ رَبَّهُ فِي أَنْ يَقُومَ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِنْفَاقَاتِ الْوَاجِبَةِ إِنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الَّذِي لَزِمَهُمْ إِنَّمَا لَزِمَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِزَامِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَلْزَمُ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِزَامِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِسَبَبِ مِلْكِ النِّصَابِ وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ.
قُلْنَا: قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ لَا يُوجِبُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ إِيقَاعِ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَنَصَّدَّقَنَّ فِي وَقْتٍ كَمَا قَالُوا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ فِي أَوْقَاتِ لُزُومِ الصَّلَاةِ، فَخَرَجَ مِنَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ هَذَا الْعَهْدِ، إِخْرَاجُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجِبُ إِخْرَاجُهَا بِمُقْتَضَى إِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَمَا يُنَافِقُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَكَذَلِكَ يُنَافِقُونَ رَبَّهُمْ فِيمَا يُعَاهِدُونَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُونَ بِمَا يَقُولُونَ/ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِمْ بِالنِّفَاقِ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْفَضْلِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ إِيتَاءُ الْمَالِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْتَاجِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ اشْتِقَاقُ لَنَصَّدَّقَنَّ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ لَنَتَصَدَّقَنَّ. وَلَكِنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا. قَالَ اللَّيْثُ:
الْمُصَّدِّقُ الْمُعْطِي وَالْمُتَصَدِّقُ السَّائِلُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هَذَا خَطَأٌ فَالْمُتَصَدِّقُ هُوَ الْمُعْطِي قَالَ تَعَالَى:
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يُوسُفَ: ٨٨].
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ الْجَوَابُ: الصَّالِحُ ضِدُّ الْمُفْسِدِ، وَالْمُفْسِدُ عِبَارَةٌ عَنِ الَّذِي بَخِلَ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُ عِبَارَةً عَمَّا يَقُومُ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي التَّكْلِيفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ثَعْلَبَةُ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أبواب الخير ليصدقن وليجعن، وَأَقُولُ التَّقْيِيدُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. بَلْ قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ وَقَوْلُهُ: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِ كُلِّ مَالٍ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ:

صفحة رقم 107

الصِّفَةُ الْأُولَى: الْبُخْلُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْحَقِّ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَلِّي عَنِ الْعَهْدِ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِعْلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى شَيْءٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَالْمُعَاهَدَةُ وَالتَّصَدُّقُ وَالصَّلَاحُ وَالْبُخْلُ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ وَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُ إِعْقَابِ النِّفَاقِ إِلَى الْمُعَاهَدَةِ أَوِ التَّصَدُّقِ أَوِ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَعْمَالُ الْخَيْرِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهَا مُؤَثِّرَةً فِي حُصُولِ النِّفَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُ هَذَا الْإِعْقَابِ إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَوْنُهُ تَارِكًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ النِّفَاقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ وَهُوَ جَهْلٌ وَتَرْكُ بَعْضِ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ الْجَهْلِ فِي الْقَلْبِ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ ترك الواجب عدم، والجهل وجود العدم/ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْوُجُودِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ هَذَا الْبُخْلَ وَالتَّوَلِّيَ وَالْإِعْرَاضَ قَدْ يُوجَدُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ الْفُسَّاقِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ النِّفَاقُ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ هَذَا التَّرْكَ لَوْ أَوْجَبَ حُصُولَ الْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ لَأَوْجَبَهُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّرْكُ جَائِزًا شَرْعًا أَوْ كَانَ مُحَرَّمًا شَرْعًا، لِأَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُخْرِجُ الْمُؤَثِّرَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا. وَأَمَّا رَابِعًا: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ فَلَوْ كَانَ فِعْلُ الأعقاب مسند إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فأعقبهم بخلهم وَإِعْرَاضِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ التَّوَلِّي وَحُصُولِ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ التَّوَلِّي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُ هَذَا الْإِعْقَابِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَوَجَبَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ، فَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْقِبُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا فِي الْمَاضِي، فَهُوَ تَعَالَى أَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ قَالَ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَلْقَوْنَهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَعْقَبَهُمْ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي:
الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ فَأَعْقَبَهُمُ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ، وَتِلْكَ الْعُقُوبَةُ هِيَ حُدُوثُ الْغَمِّ فِي قُلُوبِهِمْ وَضِيقُ الصَّدْرِ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالذَّمِّ، وَيَدُومُ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ، قَابَلْنَا دَلَائِلَهُمْ بِدَلَائِلَ عَقْلِيَّةٍ، لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَانْدَكَّتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: أَعْقَبْتُ فُلَانًا نَدَامَةً إِذَا صَيَّرْتَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ ذَلِكَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:

أَوْدَى بَنِيَّ وَأَعْقَبُونِي حَسْرَةً بَعْدَ الرقاد وعبرة لا تقلع
ويقاتل: أَكَلَ فُلَانٌ أَكْلَةً أَعْقَبَتْهُ سَقَمًا، وَأَعْقَبَهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ شَيْءٌ عَقِيبَ شَيْءٍ آخَرَ يُقَالُ أَعْقَبَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ وَخُلْفَ الْوَعْدِ يُورِثُ النِّفَاقَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ

صفحة رقم 108

أَنْ يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فَإِذَا عَاهَدَ اللَّهَ فِي أَمْرٍ فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْوَفَاءِ بِهِ، وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُوجِبُ النِّفَاقَ لَا مَحَالَةَ، وَتَمَسَّكَ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ مَنْ/ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ»
وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ لَكُمُ الْجَنَّةَ إِذَا حَدَّثْتُمْ فَلَا تَكْذِبُوا وَإِذَا وَعَدْتُمْ فَلَا تُخْلِفُوا وَإِذَا ائْتُمِنْتُمْ فَلَا تَخُونُوا وَكُفُّوا أَبْصَارَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَفُرُوجَكُمْ. أَبْصَارَكُمْ عَنِ الْخِيَانَةِ وَأَيْدِيَكُمْ عَنِ السَّرِقَةِ وَفُرُوجَكُمْ عَنِ الزِّنَا»
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ:
حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً الَّذِينَ حَدَّثُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَبُوهُ وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سِرِّهِ فَخَانُوهُ وَوَعَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَأَخْلَفُوهُ،
وَنُقِلَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَسَّرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَ عَنِ اللَّهِ كَذَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ عَاهَدَ اللَّهَ وَإِذَا ائْتُمِنَ عَلَى دِينِ اللَّهِ خَانَ فِي السِّرِّ فَكَانَ قَلْبُهُ عَلَى خِلَافِ لِسَانِهِ وَنُقِلَ أَنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ قَالَ: أَتَى الْحَسَنَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ حَدَّثُوهُ فِي قَوْلِهِمْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَكَذَبُوهُ ووعدوه في قولهم: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فَأَخْلَفُوهُ وَائْتَمَنَهُمْ أَبُوهُمْ عَلَى يُوسُفَ فَخَانُوهُ فَهَلْ نَحْكُمُ بِكَوْنِهِمْ مُنَافِقِينَ؟ فَتَوَقَّفَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعَاهَدَ مَاتَ مُنَافِقًا، وَهَذَا الْخَبَرُ وَقَعَ مَخْبَرُهُ مُطَابِقًا لَهُ، فَإِنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ ثَعْلَبَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ صَدَقَتَكَ، وَبَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا قَبِلَ صَدَقَتَهُ أَحَدٌ حَتَّى مَاتَ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَخْبَرَ هَذَا الْخَبَرِ وَقَعَ مُوَافِقًا، فَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَكَانَ مُعْجِزًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ الْمُشَبِّهَةَ تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قَالَ وَاللِّقَاءُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ: وَالَّذِي يُقَوِّيهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللقاء هاهنا: لِقَاءُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ فَكَذَا هاهنا. وَالْقَاضِي اسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ. وَأَقُولُ: أَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ كَيْفَ قَنِعَتْ نُفُوسُهُمْ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ؟! وَذَلِكَ لِأَنَّا تَرَكْنَا حَمْلَ لَفْظِ اللِّقَاءِ عَلَى الرُّؤْيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ لَدَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّا لَمَّا أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي بَعْضِ الْعُمُومَاتِ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، لَمْ يَلْزَمْنَا مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْعُمُومَاتِ أَنْ نُخَصِّصَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَكَمَا لَا يَلْزَمُ هَذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَقْوَى لَوْ ثَبَتَ أَنَّ اللِّقَاءَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ اللِّقَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ وَمَنْ رَأَى شَيْئًا فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ فَكَانَتِ/ الرُّؤْيَةُ لِقَاءً، كَمَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْبُلُوغُ. قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٦١] أَيْ لَمُلْحَقُونَ، ثم حملناه على الرؤية فكذا هاهنا، ثم نقول: لا شك أن اللقاء هاهنا لَيْسَ هُوَ الرُّؤْيَةَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً... إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أَيْ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ سَتَلْقَى عَمَلَكَ غَدًا، أَيْ تُجَازَى عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى خُلْفِ الْوَعْدِ وَعَلَى الْكَذِبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَالسِّرُّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ، وَالنَّجْوَى مَا

صفحة رقم 109
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية