
ويتألمون إذا أصابتكم حسنة في الدنيا من نصر أو نعمة. ويستاءون إساءة بليغة من وصول الخير لكم، وإن تصبك يا محمد أنت وأصحابك مصيبة من هزيمة أو شر- في الغالب سببها- يقولوا فرحين مسرورين: قد أخذنا أمرنا من قبل وأعددنا أنفسنا لها إذ نحن متوقعون هذه الهزيمة منتظرون لها، لذلك تراهم يعتذرون وينافقون، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.
قل لهم يا محمد: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتبه الله لنا، وما كتب لنا فهو الخير والدواء وإن كان مرّا فعلى رسلكم أيها الناس فنحن راضون صابرون مطمئنون لقضاء الله وقدره فهذا هو الإيمان.
لهذا على الله وحده فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والله كافيه وحافظه، وهو نعم المولى ونعم النصير. قل لهم: هل تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة والأجر فإن عشنا عشنا أعزة مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فنتربص بكم الدوائر التي تدور عليكم فيصيبكم الله بعذاب من عنده، وتلك سنته مع من يخالف أمره ويبالغ في عصيان رسله، أو يصيبكم الله بعذاب الهزيمة والذل على أيدينا. فتربصوا كما تشاءون وإنا معكم متربصون فإذا لقى كل منا ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.
أنفقوا طوعا وكرها [سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)

المفردات:
وَتَزْهَقَ زهوق النفس: خروجها من الأجساد بصعوبة عند الموت.
يَفْرَقُونَ من الفرق وهو الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه.
مَلْجَأً: المكان الذي يلتجئ إليه الخائف ليعتصم به، من حصن أو قلعة.
مَغاراتٍ: جمع مغارة، وهي الغار في الجبل، سمى بذلك لأنه يستتر فيها.
مُدَّخَلًا: مسلكا للدخول فيه بمشقة. يَجْمَحُونَ الجموح: السرعة التي لا تردها شيء. يَلْمِزُكَ اللمز: العيب مطلقا، والهمز: العيب في الغيبة.
المعنى:
يا أيها الرسول قل لهؤلاء المنافقين: إن تنفقوا ما شئتم من الأموال في الجهاد أو غيره مما أمر الله به حال الطوع لتتقوا به المسلمين وصولتهم، أو تنفقوا في حال الكره خوف

العقوبة فلن يتقبل الله منكم في الحالين، ما دمتم تشكون فيما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء عليه في الآخرة، إنكم كنتم قوما فاسقين، وهذا تعليل لعدم القبول منهم في الحالين: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة آية ٢٧].
وهذا بيان أوضح لهذا التعليل- وما منع قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وبصفاته وكفرهم برسوله وما يجب أن يكون له، وأنهم لا يأتون الصلاة التي هي عماد الدين، إلا وهم كسالى ولا ينفقون نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهم كارهون كراهة دائمة لازمة لهم فإن أنفقوا من غير أمر ولا إلزام من الرسول، بل طوع أنفسهم فهم أيضا كارهون كراهة قلبية لإنفاقهم. ومع الإلزام من باب أولى كارهون،
ولقد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»
. وإذا كان هذا مآل أموالهم في الآخرة لا يقبل منهم صرف ولا عدل فهم لا ينتفعون بها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ولا تسر من حالهم فأموالهم في الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها حيث يجمعونها بالكدح والنصب، وما يلزم ذلك من هم وألم، ثم هم ينفقونها كارهين تذهب أنفسهم حسرات عليها كأنهم يلقونها في البحر، بل أشد لأنها ستنفق في تقوية المسلمين وفي الآخرة لهم عذاب شديد، فهم يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وستخرج أرواحهم بشدة وعنف وصعوبة وألم..
ألست معى في أنهم خسروا الدنيا والآخرة؟!! المعنى: هكذا خلق المنافق يدفعه الخوف، ويملى عليه الفرق فيحلف كاذبا إنه منك في الدين ومعك في الملة والطريق وما هو منك في شيء أبدا: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ١٤].
وما دفعهم إلى هذا إلا الخوف الذي ملك قلوبهم، والفرق الذي شاع في نفوسهم حتى إنهم لشدة كراهيتهم للقتال معكم وشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدة عنكم بحيث لو يجدون ملجأ يلجئون إليه، أو مغارة يغورون فيها أو مدخلا يندسون فيه، لولوا إليه وهم مسرعون لا يلوون على شيء، سرعة الفرس الجموح التي لا يردها لجام ولا قائد.