
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ- إلى قوله- قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح ٤٨/ ١٥].
٤- كراهية انبعاثهم: معناها إرادة الله عدم ذلك الشيء «١»، أي عدم خروجهم لأن خروجهم يؤدي إلى الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو وإثارة الخلافات والمنازعات، والخروج على هذا النحو معصية وكفر، فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه، إذ كان معصية، والله لا يحب الفساد «٢».
٥- المقصود من قوله: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيت، وهم القاعدون والقواعد، والخالفون والخوالف.
٦- لن تفلح مكائد البشر من منافقين ويهود ومشركين وغيرهم، ولن تقف أي قوة في الدنيا أمام إرادة الله القاهرة إعلاء دينه، وغلبة شرعه، ونصرة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم.
انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك وفرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ١٢٠

الإعراب:
أَلا للتنبيه وافتتاح الكلام.
البلاغة:
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ | فيها المقابلة بين أمرين. |
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر، وإظهار لفظ الجلالة مكان الإضمار لتربية المهابة والخوف منه تعالى.
هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا اللفظ استفهام، والمعنى توبيخ.
فَتَرَبَّصُوا أمر يراد به التهديد والوعيد.
المفردات اللغوية:
ائْذَنْ لِي في التخلف والقعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك، هلك مالي وعيالي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي وقعوا فيها وهي فتنة التخلف لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة، أو هي محيطة بهم لأن أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها، والمعنى: لا محيص ولا مهرب لهم عنها. صفحة رقم 241

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة كنصر وغنيمة وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة وشدة يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي لقد احتطنا بالحزم حين تخلفنا من قبل هذه المصيبة فَرِحُونَ بما أصابك ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا إصابته هُوَ مَوْلانا ناصرنا ومتولي أمورنا هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي تنتظرون أن يقع، والأصل: تتربصون، فحذفت إحدى التاءين. إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين: النصر أو الشهادة، وهي تثنية حسنة تأنيث أحسن نَتَرَبَّصُ ننتظر بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء أَوْ بِأَيْدِينا بأن يؤذن لنا في القتال مُتَرَبِّصُونَ عاقبتكم.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٩) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي:
أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال:
يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي، ولا تفتني، فأنزل الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
أي لا تفتني بصباحة وجوههن.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مثله، وعبارته قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال:
الأصفر؟ قال جدّ، وكان من شيوخ المنافقين: أتأذن لي يا رسول الله، فإني رجل أحبّ النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو معرض عنه: قد أذنت لك، فنزلت الآية.
ولما نزلت قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبني سلمة- وكان الجد بن قيس منهم- «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: جدّ بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي

صلّى الله عليه وآله وسلم: وأي داء أدوى «١» من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور.
نزول الآية (٥٠) :
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ:
أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة، يخبرون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء، يقولون: إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» الآية.
المناسبة:
الآيات السابقة واللاحقة في تعداد قبائح المنافقين، وبيان نوع آخر من كيدهم ومن خبث بواطنهم، وشماتتهم بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة، وترحهم إذا تعرضوا لحسنة.
التفسير والبيان:
ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد ائذن لي في القعود والتخلف عن القتال، ولا توقعني في الإثم والهلاك بالخروج معك، حتى لا أفتتن بنساء الروم، منتحلين الأعذار الواهية، مظهرين التمسك بالفضيلة، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم، كاشفا حقيقتهم فقال: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم بهذه المقالة وقعوا فعلا في الفتنة، حين انتحلوا الأعذار الكاذبة، وقعدوا عن الجهاد، فقوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي في الإثم والمعصية وقعوا.

وإن نار جهنم لمحيطة بهم، لا يجدون عنها محيدا ولا محيصا ولا مهربا. وهذا وعيد شديد لهم بأنهم أهل جهنم لكثرة خطاياهم، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة ٢/ ٨١].
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كيد المنافقين وخبث باطنهم، معلما نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بعداوتهم، فقال: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ... أي إن عرضت لك في بعض الغزوات حسنة، أي فتح ونصر وغنيمة، كيوم بدر، ساءهم ذلك وإن أصابتك مصيبة، أي نكبة وشر وشدة كانهزام وتراجع في معركة، كما حدث يوم أحد، قالوا: قد اتخذنا ما يلزم من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، واحترزنا من متابعته من قبل هذا الذي وقع، إذ تخلفنا عن القتال، ولم نتعرض للهلاك لأنا متوقعون هذه الهزيمة، وانصرفوا إلى أهاليهم عن موضع التحدث والمفاخرة بآرائهم هذه، وهم مسرورون للنتيجة.
والحسنة: ما يسرّ النفس حصوله، والسيئة: ما يسوء النفس وقوعه.
فأرشد الله تعالى رسوله إلى إجابتهم عن هذا الموقف الشامت فقال: قل لهم: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخطّ لنا في اللوح المحفوظ، فنحن تحت مشيئته وقدره، هو مولانا، أي ناصرنا ومتولي أمورنا ونتولاه، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ١١] فكل ما كتب لنا هو الخير والصلاح.
وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، أي ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحق المؤمنين ألا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم، ومن حقهم اتخاذ ما يجب من أسباب النصر المادية والمعنوية، كإعداد العدة

اللازمة، وتوقي كل المنازعات التي تؤدي الى الفشل وتفرق الكلمة. والتوكل:
تفويض الأمر إلى الله، بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة عادة.
ثم أرشد الله تعالى إلى جواب ثان عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، فقال: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ أي قل لهم يا محمد: هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين الحسنتين: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والثواب العظيم، فإن عشنا عشنا أعزة كراما مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين.
أما نحن فننتظر بكم إحدى السوأتين من العواقب: إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود، أو بعذاب بأيدينا وهو السبي أو القتل على الكفر أو الإذن لنا في قتالكم، فانتظروا بنا ما ذكرنا من عواقبنا، إنا معكم منتظرون ما هو عاقبتكم، فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه، لا يتجاوزه، فنحن على بيّنة من ربنا، ولا بينة لكم، لا تشاهدون إلا ما يسرّنا، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم، وانتظروا أنتم مواعد الشيطان، إنا منتظرون مواعد الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن الأعذار الكاذبة لا تخفى على الله المطلع على الغيوب وأسرار النفوس وخفايا ما في الصدور، فلا يغترن أحد بذكائه وفطنته في تعمية الحقائق، فإن الله كاشف كل شيء، ولكن المنافقين قوم أغرار جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة.
٢- المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الخروج معه إلى غزوة تبوك هم الواقعون في الإثم والمعصية. قال أهل المعاني في قوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا: فيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه

ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
٣- المنافقون حصب جهنم وهم لها واردون، وهي تحيط بهم إحاطة شاملة، لا يفلت من حرها أحد منهم يوم القيامة. وقد عبر قوله تعالى عن ذلك:
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وأفاد التعبير أنهم كانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بسبب تزايد دولة الإسلام واستعلائها وامتدادها، والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم العقوبات الروحانية، كما قال الرازي «١».
٤- هناك نوع آخر من كيد المنافقين وخبث بواطنهم، وهو إساءتهم إن أصاب المؤمنين في بعض المعارك حسنة كظفر أو غنيمة، وفرحهم إن أصاب المؤمنين سيئة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه، ثم قولهم: قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، من قبل وقوع ما وقع، ثم توليهم عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون.
٥- كان الرد الحاسم الأول على كل تلك المكائد: أنه لن يصيب الإنسان خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر عليه مكتوب عند الله، معلوم لله، مقضي به عند الله تعالى.
وهذا دليل في رأي أهل السنة على أن قضاء الله شامل لكل المحدثات، وأن تغير الشيء عما قضي الله به محال.
ويؤكد مضمون الآية
قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من علم سر الله في القدر، هانت عليه المصائب».