
يَعْنِي الْمِيرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أَيْ مِنْ أَيِّ جهة حصل لهم ذلك مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا، زاد بعضهم فاحشا.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢١ الى ٣٠]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، فَقَالَ تعالى: كَلَّا أَيْ حَقًّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أَيْ وُطِئَتْ وَمُهِّدَتْ وَسُوِّيَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَقَامَ الْخَلَائِقُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَجاءَ رَبُّكَ يَعْنِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَيْهِ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعد ما يَسْأَلُونَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَاكُمْ حَتَّى تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: «أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» فَيَذْهَبُ فيشفع عند الله تعالى فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ تعالى فِي ذَلِكَ.
وَهِيَ أَوَّلُ الشَّفَاعَاتِ وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، فيجيء الرب تبارك وتعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» «١» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَوْلُهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عبد الله قوله.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أَيْ عَمَلَهُ وَمَا كَانَ أَسْلَفَهُ فِي قَدِيمِ دَهْرِهِ وَحَدِيثِهِ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي وكيف تنفعه الذكرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي يَعْنِي يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي إِنْ كَانَ عَاصِيًا وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ ازْدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ إِنْ كَانَ طَائِعًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «٢» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يموت هرما في طاعة الله
(٢) المسند ٤/ ١٨٥.

لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه رد إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
وَرَوَاهُ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن عتبة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ مَنْ عَصَاهُ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أَيْ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ قَبْضًا وَوَثْقًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ لِمَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وهذا فِي حَقِّ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَالظَّالِمِينَ، فَأَمَّا النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ السَّاكِنَةُ الثَّابِتَةُ الدَّائِرَةُ مَعَ الْحَقِّ فَيُقَالُ لَهَا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أَيْ إِلَى جِوَارِهِ وَثَوَابِهِ وَمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِي جَنَّتِهِ راضِيَةً أَيْ فِي نَفْسِهَا مَرْضِيَّةً أَيْ قَدْ رَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ وَادْخُلِي جَنَّتِي وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هَاهُنَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَيَمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُقَالُ لِلْأَرْوَاحِ الْمُطْمَئِنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يَعْنِي صَاحِبُكِ وَهُوَ بَدَنُهَا الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي الدُّنْيَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فَادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي جَنَّتِي وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ غريب، والظاهر الأول لقوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: ٦٢] وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ [غَافِرٍ: ٤٣] أَيْ إِلَى حُكْمِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ هذا لحسن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ يَمَانٍ بِهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَجَاءَ طير لم ير على خلقته فَدَخَلَ نَعْشَهُ ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ القبر لا يدري من تلاها