
بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباء منثورا كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة لِسَعْيِها راضِيَةٌ وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم تَصْلى ناراً حامِيَةً أي تدخل نارا متناهية في الحرارة. قال القاشاني: أي مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي بلغت غايتها في شدة الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطبا. فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل. قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له الشبرق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: ٣٦].
لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع وقيل الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا لا يُسْمِنُ أي لا يخصب البدن وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي لعملها الذي عملته في الدنيا، وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو. لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والحميد فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أي لا انقطاع لها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي مرتفعة ليروا، إذا جلسوا عليها. جميع ما خولوه من النعيم والملك وَأَكْوابٌ جمع كوب، وهو إناء لا أذن له مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ أي فوق الأسرة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها وَزَرابِيُّ أي بسط مَبْثُوثَةٌ أي مفروشة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)

أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر.
والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من (الإبل) أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزّ وجلّ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه وَإِلَى الْجِبالِ أي التي ينزلون في أقطارها كَيْفَ نُصِبَتْ أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظ للأرض من الميدان وَإِلَى الْأَرْضِ أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق. حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ﷺ ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي أن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال. وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام رب العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآيات، لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد