آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ
ﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعلى
تسع عشر آية مكية
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: اسْمَ رَبِّكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اسْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ صِلَةٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَزِّهِ اسْمَ رَبِّكَ عَنْ أَنْ تُسَمِّيَ بِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَلَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ بِاسْمِهِ، كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ بِاللَّاتِ، وَمُسَيْلِمَةَ بِرَحْمَانِ الْيَمَامَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ لا يفسر أسماءه بِمَا لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ نَحْوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَعْلَى بِالْعُلُوِّ فِي الْمَكَانِ والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء وَالِاسْتِوَاءُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَانَ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالذِّكْرِ لَا عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَذْكُرَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يكون المراد بسبح باسم رَبِّكَ، أَيْ مَجِّدْهُ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَيْكَ وَعَرَّفْتُكَ أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: ٧٤] وَمَقْصُودُ الْكَلَامِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، لَا كَمَا يُصَلِّي الْمُشْرِكُونَ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالثَّانِي:
أَنْ لَا يَذْكُرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ إِلَّا بأسماء الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وبين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ معنى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِذِكْرِ اسْمِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ تَنْزِيهِهِ وَعُلُوِّهِ عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ نَزِّهِ الِاسْمَ مِنَ السُّوءِ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هَاهُنَا الصِّفَةُ، وَكَذَا فِي/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨٠]

صفحة رقم 125

أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ صِلَةً وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْمَ فِي الْحَقِيقَةِ لَفْظَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ حُرُوفٍ وَلَا يَجِبُ تَنْزِيهُهَا كَمَا يَجِبُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا يُذْكَرُ هُوَ بَلْ يُذْكَرُ اسْمُهُ فَيُقَالُ: سَبِّحِ اسْمَهُ، وَمَجِّدْ ذِكْرَهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي، وَقَالَ لَبِيدٌ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
أَيِ السَّلَامُ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَنَقُولُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَسْبِيحُ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَامِلَ الْكُفَّارَ مُعَامَلَةً يُقْدِمُونَ بِسَبَبِهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، بِمَا لَا يَنْبَغِي عَلَى مَا قَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨]، الثَّانِي: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ، وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي أَحْكَامِهِ، أَمَّا فِي ذَاتِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَأَمَّا فِي صِفَاتِهِ، فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحْدَثَةً وَلَا مُتَنَاهِيَةً وَلَا نَاقِصَةً، وَأَمَّا فِي أَفْعَالِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالِكٌ مُطْلَقٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ صَوَابٌ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَلَا يَرْضَى بِهِ، وَأَمَّا فِي أَسْمَائِهِ فَأَنْ لَا يُذْكَرَ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، هَذَا عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ سَوَاءً وَرَدَ الْإِذْنُ بِهَا أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِهِ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا كَلَّفَنَا لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ. بَلْ إِمَّا لِمَحْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى مَا [هُوَ] قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْخَوْضَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ بَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ وَالْمُسَمَّى مَا هُوَ حَتَّى يُمْكِنَنَا أَنْ نَخُوضَ فِي الِاسْمِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا، فَنَقُولُ: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّاتُ، فَالْعَاقِلُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ، مِنَ الِاسْمِ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتَ كَانَ قَوْلُنَا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هُوَ أَنَّ تِلْكَ الذَّاتِ نَفْسُ تِلْكَ الذَّاتِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ عَاقِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وَصْفِهَا رَكِيكَةٌ. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَوْضُ فِي ذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ أَرَكَّ وَأَبْعَدَ بَلْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَنَا: اسْمٌ لَفْظَةٌ جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ، وَالِاسْمُ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يكون الاسم اسما لنفسه فههنا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى فَلَعَلَّ الْعُلَمَاءَ الْأَوَّلِينَ ذَكَرُوا ذَلِكَ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنُّوا أَنَّ الِاسْمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هَذَا حَاصِلُ التَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى الْكَلَامِ الْمَأْلُوفِ، قَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا فَمَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَالرَّبُّ أَيْضًا اسْمٌ فَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ التَّسْبِيحُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا/ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَارِدًا بِتَسْبِيحِ الِاسْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْبِيحَ الْمُسَمَّى وَذُكِرَ الِاسْمُ صِلَةً فِيهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: ٧٤] وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ لَنَا رَسُولُ

صفحة رقم 126

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»
ثُمَّ
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»
ثُمَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِإِطْبَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] وَرَدَ فِي بَيَانِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عُمَرَ: (سُبْحَانَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: سَبِّحِ أَمْرٌ بِالتَّسْبِيحِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَمَا هُوَ إِلَّا قَوْلُهُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا كَانَ طَرَفُهُ الْفَوْقَانِيُّ مُتَنَاهِيًا، فَكَانَ فَوْقَهُ جِهَةً فَلَا يَكُونُ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَالْقَوْلُ: بِوُجُودِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ تَعَالَى مُخْتَلِطَةً بِالْقَاذُورَاتِ تَعَالَى اللَّهَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَمُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ كَانَ الْجَانِبُ الْمُتَنَاهِي مُغَايِرًا لِلْجَانِبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، هذا مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ الْعُلُوَّ هَاهُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ فِي الْجِهَةِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ بِالْجِهَةِ، أَمَّا مَا قَبْلَ الْآيَةِ فَلِأَنَّ الْعُلُوَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْعَالَمِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ التَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، أَمَّا الْعُلُوُّ بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالتَّخْلِيقِ وَالْإِبْدَاعِ فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ وَالسُّورَةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِمَا لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ أَرْدَفَ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالْخَالِقِيَّةُ تُنَاسِبُ الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ لَا الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْجِهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ أَحَدُهُمَا عَظِيمٌ وَالْآخَرُ أَعْلَى مِنْهُ، أَمَّا الْعَظِيمُ فَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَأَمَّا الْأَعْلَى مِنْهُ فَقَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَهَذَا يَقْتَضِي وجود رَبٍّ آخَرَ يَكُونُ هَذَا أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الصَّانِعَ تَعَالَى وَاحِدٌ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ فِي/ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى مِنْ رَبٍّ آخَرَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى، ثُمَّ لَنَا فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَصِفُهُ بِهِ الْوَاصِفُونَ، وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ يَذْكُرُهُ بِهِ الذَّاكِرُونَ، فَجَلَالُ كِبْرِيَائِهِ أَعْلَى مِنْ مَعَارِفِنَا وَإِدْرَاكَاتِنَا، وَأَصْنَافُ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ أَعْلَى مِنْ حَمْدِنَا وَشُكْرِنَا، وَأَنْوَاعُ حُقُوقِهِ أَعْلَى مِنْ طَاعَاتِنَا وَأَعْمَالِنَا.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ التَّنْزِيهَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ: الْأَعْلَى أَيْ فَإِنَّهُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: اجْتَنَبْتُ الْخَمْرَ الْمُزِيلَةَ لِلْعَقْلِ أَيِ اجْتَنَبْتُهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مُزِيلَةً لِلْعَقْلِ.

صفحة رقم 127

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْعَالِيَ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْبَرِ الْكَبِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ وَيَقُولُ: «لَوْ عَلِمَ النَّاسُ عِلْمَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى لَرَدَّدَهَا أَحَدُهُمْ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً»
وَرُوِيَ: «أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّتْ بِأَعْرَابِيٍّ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي يُسِرُّ عَلَى الْحُبْلَى، فَأَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، أَلَا بَلَى أَلَا بَلَى) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا آبَ غَائِبُكُمْ، وَلَا زَالَتْ نِسَاؤُكُمْ فِي لَزْبَةٍ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ، فَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْبِيحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ؟ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] وَحَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى [طه:
٤٩] ؟ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [الْعَلَقِ: ١، ٢] هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: ٣، ٤] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ تِلْكَ الْحُجَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَكْثَرُ، وَمُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لَهَا، وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا أَتَمُّ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ فَسَوَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّاسَ خَاصَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيَوَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ ذَكَرَ لِلتَّسْوِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَامَتَهُ مُسْتَوِيَةً مُعْتَدِلَةً وَخِلْقَتَهُ حَسَنَةً، عَلَى مَا قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّينِ: ٤] وَأَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ خَلْقِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ/ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَطْ، وَغَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ خُلِقَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ هيأ لِلتَّكْلِيفِ وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ حَيَوَانٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءٍ وَآلَاتٍ وَحَوَاسٍّ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ التَّسْوِيَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، خَلَقَ مَا أَرَادَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ مَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، مُبَرَّأً عَنِ الْفَسْخِ وَالِاضْطِرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرَ مُشَدَّدَةً وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلَى التَّخْفِيفِ، أَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ مَلَكَ فَهَدَى وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ خَلَقَ فَسَوَّى، وَمَلَكَ مَا خَلَقَ، أَيْ تَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، وَهَذَا هُوَ الْمِلْكُ فَهَدَاهُ لِمَنَافِعِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٣] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.

صفحة رقم 128

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: قَدَّرَ يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِهِ فقدر السموات وَالْكَوَاكِبَ وَالْعَنَاصِرَ وَالْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ وَالْإِنْسَانَ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْجُثَّةِ وَالْعِظَمِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْبَقَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَمِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأُيُونِ وَالْأَوْضَاعِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالضَّلَالَةِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: ٢١] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا لَا يَفِي بِشَرْحِهِ الْمُجَلَّدَاتُ، بَلِ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَهَدى فَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مِزَاجٍ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِقُوَّةٍ خَاصَّةٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، فَالتَّسْوِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَرْكِيبِهَا عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ لِأَجْلِهِ تَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُوَى، وَقَوْلُهُ: فَهَدى عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ تِلْكَ الْقُوَى فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ قُوَّةٍ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَمَامُ الْمَصْلَحَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَدَى الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى كَيْفَ يَأْتِيهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَاهُ لِلْمَعِيشَةِ وَرَعَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسُبُلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ حَسَّاسًا دَرَّاكًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ وَالْإِحْجَامِ عَمَّا يَسُوءُهُ كَمَا قَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: ٣] وَقَالَ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْسِ: ٧، ٨] وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا:
كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] وَقَالَ آخَرُونَ: الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي [الشُّورَى: ٥٢] أَيْ تَدْعُو، وَقَدْ دُعِيَ الْكُلُّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ/ آخَرُونَ: هَدَى أَيْ دَلَّهُمْ بِأَفْعَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ، وَنُعُوتِ صَمَدِيَّتِهِ، وَفَرْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَرَى فِي العالم أفعال مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهَدى إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَكْرَهَ عَبْدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَهُ بِهَا، وَلَكِنْ رَضِيَ لكم الطاعة، وَأَمَرَكُمْ بِهَا، وَنَهَاكُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَلَى كَثْرَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: فَهَدى عَلَى ما يتعلق بالدين كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله: خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ يَرْجِعُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِكْمَالُ الْعَقْلِ وَالْقُوَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:
فَهَدى أَيْ كَلَّفَهُ وَدَلَّهُ عَلَى الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُ النَّاسِ مِنَ النَّعَمِ: فَقَالَ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أَيْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الْعُشْبِ لَا الْأَصْنَامُ الَّتِي عَبَدَتْهَا الْكَفَرَةُ، وَالْمَرْعَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنَ النَّبَاتِ وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْحَشِيشِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرْعَى الْكَلَأُ الْأَخْضَرُ، ثُمَّ قَالَ: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُثَاءُ مَا يَبُسَ مِنَ النَّبْتِ فَحَمَلَتْهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْمِيَاهُ وَأَلْوَتْ بِهِ الرِّيَاحُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ وَاحِدُ الْغُثَاءِ غُثَاءَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَوَّةُ السَّوَادُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَحْوَى هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ إِذَا أَصَابَتْهُ رُطُوبَةٌ، وَفِي أَحْوَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَعْتُ الْغُثَاءِ أَيْ صَارَ بَعْدَ الْخُضْرَةِ يَابِسًا فَتَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ السَّوَادِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُشْبَ إِنَّمَا يَجِفُّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْبَرْدِ عَلَى الْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الْبُرُودَةِ أَنَّهَا تُبَيِّضُ الرطب وتسود

صفحة رقم 129
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية