سورة الأعلى
تتضمن السورة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتقديس اسم الله، وإيذانا له بأن الله ميسره في طريق اليسر، وأمره بالتذكير وتبشير المستجيبين بالفلاح وإنذار المتمردين بالنار.
وأسلوبها يلهم أنها بسبيل عرض عام للدعوة وأهدافها ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيها مواقف ومشاهد جدلية، ولعلها نزلت بعد الفاتحة. أو نزلت قبل نزول ما تضمن حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والرد عليهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ١٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
. (١) التسبيح: التنزيه والتقديس عن كل ما لا يليق.
(٢) سوّى: أتقن وجعل الشيء سويّا تاما.
(٣) قدّر: حسب ورتب.
(٤) غثاء: النبات اليابس المتكسر الذي تحركه الرياح وتجره المياه.
(٥) أحوى: أسود أو ضارب للسواد.
(٦) اليسرى: مؤنث الأيسر أي الأسهل، من اليسر. صفحة رقم 511
الخطاب في الآيات موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تضمنت:
١- أمره بتقديس اسم ربّه الأعلى الذي يستحق كل تقديس وتنزيه. فهو الذي خلق كل شيء وسوّاه على أتم وجه. وهو الذي رتب وحسب في الخلق كل أمر.
وأودع في خلقه قابلية الهدى. وهو الذي أنبت النبات ثم جعله جافا متكسرا أسود اللون بالناموس الذي أودعه في الكون بعد ما كان أخضر لينا.
٢- وتنبيها له بأنه سيوحى إليه بالقرآن ويعلمه إياه، فلا ينسى منه شيئا إلّا ما شاء الله فهو العليم بكل شيء ظاهر وخفي وبمقتضيات كل حال، وبأنه سييسره في أسهل السبل وأيسرها، وبأن عليه أن يدعو الناس إليها ويذكرهم لعل الذكرى تنفعهم وهذه مهمته.
٣- وتقريرا بأن الناس إزاء الذكرى فريقان: تقي صالح وشقي آثم. فالأول هو الذي يخشى العاقبة فيتقبل الدعوة وينتفع بالذكرى، والثاني هو الذي لا يخشى العاقبة فيعرض عن الدعوة والذكرى، فيكون جزاؤه النار الهائلة التي لا يموت فيها فيستريح، ولا يأمل الخلاص منها والحياة الآمنة المطمئنة.
وليس في الآيات إشارة إلى موقف خاص لمكذبين ومناوئين، وإنما هي بسبيل عرض عام للدعوة ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسلوب رصين وهادىء معا.
تنبيه على ما أسبغه القرآن والسنّة النبوية على التسبيح من حفاوة
وبمناسبة الأمر بتسبيح الله تعالى في مفتتح السورة نقول إن الأوامر القرآنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بتسبيح الله تعالى قد تكررت كثيرا. منها ما فيه أمر بالتسبيح في أوقات معينة، ومنها ما فيه أمر بالتسبيح مطلقا أو في كل وقت. ومنها ما فيه أمر بالتسبيح باسم الله أو التسبيح بحمد الله. ومن السنن النبوية الصحيحة المعمول بها بدون انقطاع صيغة (سبحان الله العظيم) في كل ركوع من كل صلاة وصيغة (سبحان ربي الأعلى) في كل سجود من كل صلاة. حيث تتساوق السنة النبوية مع الأوامر القرآنية.
والتسبيح هو تقديس وتنزيه وذكر لله عز وجل وثناء عليه بما هو أهله. بحيث يسوغ القول إن الأوامر القرآنية والنبوية بمواصلة تسبيح الله تعالى قد هدفت إلى جعل المسلم يديم ذكر الله في كل وقت مقدسا منزها مثنيا حامدا مستعيذا. ولا شك في أن المسلم الذي يداوم على ذلك بصدق وقلب وإيمان يظل مستشعرا بالله عز وجل مراقبا جانبه في كل ما يفعل أو يريد أن يفعل فيجعله ذلك حريصا على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. ويكون له بذلك وسيلة عظمى من وسائل التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة فيها صيغ التسبيح بسبيل تعليم المسلمين وبيان لما في التسبيح من ثواب وقربى عند الله عز وجل. فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك اللهمّ اغفر لي» «١» وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عنها أيضا: «أنه كان يقول في ركوعه وسجوده سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» «٢». وما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الله قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تمّ ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تمّ سجوده وذلك أدناه» «٣» وما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن جويرية: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم قال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» «٤».
وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) التاج ج ٥ ص ٩٢ و ٩٦.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٣٣
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» «١». وما رواه أبو داود: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّم بعض بناته فيقول قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا قوة إلّا به، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما، فإنه من قالهنّ حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهنّ حين يمسي حفظ حتى يصبح» «٢». وما رواه أبو داود كذلك عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى تُخْرَجُونَ «٣» أدرك ما فاته في يومه ذلك ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» «٤».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الانتفاع بالتسبيح رهن بالإخلاص فيه وعدم اقتصاره على الحركة اللسانية التي لا يستشعر صاحبها بما فيه من تذكير وتنبيه وحافز على مراقبة الله عز وجل وتقواه. والله أعلم.
التلقين المنطوي في الآيتين سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١)
ولقد احتوت الآيتان [١٠- ١١] تلقينا جليلا مستمدا من الوصف الذي وصف به الفريقين اللذين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتذكيرهما ودعوتهما. فالذي يعرض عن دعوة الحق هو شقي بطبعه يصدر عن نية خبيثة وطوية فاسدة وخلق سيء بعكس الذي يتأثر بدعوة الحق ويستجيب إليها فإنه يصدر عن نية حسنة وطوية سليمة وخلق
(٢) التاج ج ٥ ص ٩٩.
(٣) المقصود هو آيات سورة الروم هذه: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩).
(٤) التاج ج ٥ ص ٩٩.
فاضل ويخشى العاقبة ويسارع إلى رضاء الله.
وينطوي في هذا تقرير كون الاستجابة والإعراض عملين اختياريين يقدم من يقدم عليهما بدافع من عقله وطبعه وخلقه وطويته. وفي الآية [٣] تأييد لهذا التقرير حيث تقرر أن الله قد أودع في الناس قابلية الهدى والسير في طريق الحق والخير والصواب. فمن لم ينتفع بها فيكون هو الشقي الذي اختار لنفسه طريق الضلال المؤدية إلى الهلاك والخسران والمتبادر أن هذا مبدأ من المبادئ المحكمة التي نوهنا بها في سياق تفسير سورة المدثر، والتي ينبغي النظر في إشكالات بعض الآيات والعبارات القرآنية في ضوئها.
تعليق على جملة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ومسألة جواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وتعليقا على هذه الجملة نقول إن في القرآن والحديث ما يسيغ القول بجواز النسيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. من ذلك آية سورة الكهف هذه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وقد روي أن الآيات نزلت لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعد بالإجابة على أمر دون أن يقول إن شاء الله على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن ذلك آية سورة الأنعام هذه: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) والنبي صلّى الله عليه وسلّم داخل في مدى التعليم القرآني المنطوي في آية البقرة هذه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [٢٨٦] على ما يلهمه سياقها.
ومن الحديث ما رواه الخمسة عن عبد الله قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم». وفي رواية قال: «أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى
كما تنسون ثم سجد سجدتي السّهو» «١».
غير أن الجملة كما يتبادر لنا توجب على المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن ينسى تبليغ شيء من القرآن الذي يوحي الله به إليه إلّا ما شاء الله أن ينساه. وتكون هذه في الحالة من نوع النسخ القرآني على ما سوف نشرحه في سياق تفسير إحدى آيات سورة النحل لأن ذلك أكثر ملاءمة والله تعالى أعلم.
تعليق على وصف الْأَعْلَى
ولقد استنبط بعض أصحاب المذاهب الكلامية من وصف (الأعلى) الذي وصف به الله عز وجل أنه سبحانه وتعالى في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في السماء. ونقول تعليقا على ذلك أن الله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة وإن في القرآن آيات عديدة تذكر أنه في السماء إله وفي الأرض إله وأنه ربّ السّموات وربّ الأرض مثل آيات سورة الزخرف هذه: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) والمتبادر أن وصفه بالأعلى يهدف إلى تقرير وصفه بالعلوّ عن كل شيء الذي يدانيه في عظمته وقوته وتساميه شيء. ولقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في سجودكم» «٢» فجرى المسلمون من لدن النبي صلّى الله عليه وسلّم بدون انقطاع على ذكر هذه الصيغة مرات في كل سجدة يسجدونها مما فيه معنى لطيف متصل بالهدف المذكور فيما يتبادر لنا من حيث تضمنه الاعتراف لله بصفة العلوّ عن
(٢) أورد الحديث المفسر ابن كثير في سياق هذه السورة وفي سياق سورة الواقعة.