
ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، زادت عائشة: والمعوذتين.
وروى أحمد عن علي رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحبّ هذه السورة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
تنزيه اللَّه تعالى وقدرته وتحفيظه القرآن لنبيه
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨)
الإعراب:
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى إن كانت (جعل) بمعنى (خلق) كان غُثاءً أَحْوى منصوبا على الحال. وإن كانت بمعنى (صير) كان غُثاءً أَحْوى مفعولا به ثانيا، أي جعله غثاء أسود يابسا، ولا يكون: فَجَعَلَهُ غُثاءً فصلا بين الصلة والموصول لأن قوله: فَجَعَلَهُ غُثاءً داخل في الصلة، والفصل بين بعض الصلة وبعضها مما يتعلق بها غير ممتنع، وإنما الممتنع الفصل بين بعضها وبعض بأجنبي عنها.
فَلا تَنْسى لا: نافية، لا ناهية، ولهذا ثبتت الألف في قوله: تَنْسى والمعنى:
لست ناسيا.
البلاغة:
خَلَقَ فَسَوَّى وقوله: قَدَّرَ فَهَدى حذف المفعول ليفيد العموم لأن المراد: خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فسواه.
أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى سجع غير متكلف. صفحة رقم 187

الْجَهْرَ وَما يَخْفى بينهما طباق.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى نزّه اسم اللَّه ربك عما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، واذكره دائما على وجه التعظيم، فإنه الأسمى والأعلى من كل شيء،
جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره كما سيأتي: «لما نزل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة ٥٦/ ٧٤] قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، قال:
اجعلوها في سجودكم، وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت».
خَلَقَ أبدع الكائنات. فَسَوَّى سوى مخلوقه بأن جعله متناسب الأجزاء، غير متفاوت، وعلى نظام كامل. قَدَّرَ جعل الأشياء على مقادير مخصوصة، فوضع قدرا لكل حي، وقدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها حسبما تقتضي مدة بقائها. فَهَدى عرّفه وجه الانتفاع بما خلق له، وبيّن له طريق الخير والشر بالميول والإلهامات وإقامة الدلائل وإنزال الآيات. الْمَرْعى كل ما تخرجه الأرض من العشب والنبات والثمار والزروع. فَجَعَلَهُ بعد خضرته. غُثاءً جافا هشيما يابسا. أَحْوى أسود.
سَنُقْرِئُكَ القرآن على لسان جبريل عليه السلام بأن نجعلك قارئا ونلهمك القراءة.
فَلا تَنْسى ما تقرؤه، بل تحفظه، مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى على صدق نبوتك، ولا: للنفي لا للنهي. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه، بنسخ تلاوته وحكمه. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ما ظهر من الأحوال وما بطن، سواء أكان قولا أم فعلا، ومنه الجهر بالقراءة مع جبريل مخافة النسيان والجملة اعتراضية. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى نوفقك لأعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر وسهولة الحياة. وإنما قال: نيسرك، أي نعدّك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي أو التدين أو نوفقك لها، لا نيسر لك، عطفا على سَنُقْرِئُكَ.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
سَنُقْرِئُكَ:
قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها فنزلت: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.

وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات.
التفسير والبيان:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عن كل ما لا يليق به، بقولك:
«سبحان ربي الأعلى». قال القرطبي: والأولى أن يكون الاسم هو المسمى «١».
وقال أبو حيان: الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن، فيقال له: ربّ أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره، فهو أبلغ، وتنزيه الذات أحرى، وقيل: الاسم هنا بمعنى المسمى، فالاسم: صلة زائدة، والمراد الأمر بتنزيه اللَّه تعالى «٢». والمراد بالأعلى: أن اللَّه هو العالي والأعلى والأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون، كما يوصف بالكبير والأكبر.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني: «لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال لنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم».
ثم وصف ذلك الاسم الأعلى بصفات تكون دليلا على وجود الرب وقدرته لمن أراد معرفته، فقال:
١- الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي الذي خلق الكائنات جميعها، ومنها الإنسان، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات، فعدل قامته، وناسب بين أجزائه، وجعلها متناسقة محكمة غير متفاوتة ولا مضطربة، للدلالة على إتقانها من إله حكيم مدبر عالم.
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٤٥٨

٢- وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والذي قدر لكل مخلوق ما يصلح له، فهداه إليه، وعرّفه وجه الانتفاع به، أو قدّر أجناس الأشياء، وأنواعها، وصفاتها، وأفعالها، وأقوالها، وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له، ويسره لما خلقه له، وألهمه أمور دينه ودنياه، وقدّر أرزاق الخلق وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسان، ولمراعيهم إن كانوا وحشا، وخلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه «١».
ونظير الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٥٠] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، كما
ثبت في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه قدر مقادير الخلق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء».
والخلاصة: أن التقدير: عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعد لقبول تلك القوى.
والهداية: عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء، بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة.
٣- وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى أي والذي أنبت العشب وما ترعاه الدواب من النبات الأخضر، وأنبت جميع أصناف النبات والزروع ليأكلها الإنسان.
ثم جعل ذلك المرعى بعد أن كان أخضر، غثاء أحوى، أي باليا هشيما جافا، أسود بعد اخضراره لأن الكلأ إذا يبس اسودّ.

وبما أن التسبيح الذي أمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه، حرص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على معرفته وحفظه بقراءة ما أنزله اللَّه تعالى عليه من القرآن، فوعده ربه وبشره بأنه سيقرئه من القرآن ما فيه تنزيهه وأنه لا ينسى، فقال:
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي سنجعلك يا محمد قارئا، بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه، وقد كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، فألهمه اللَّه وعصمه من نسيان القرآن.
ونظير الآية قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه ٢٠/ ١١٤] وقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة ٧٥/ ١٦- ١٧].
ثم قال: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك، ولا تنساه، إلا ما شاء اللَّه أن تنساه، فإن أراد أن ينسيك شيئا، فعل. وقيل:
المراد بالاستثناء ما يقع من النسخ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء اللَّه رفعه أو نسخه، مما نسخ تلاوته، فلا عليك أن تتركه.
والمعنى الأول أصح قال قتادة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينسى شيئا إلا ما شاء اللَّه. قال أبو حيان: الظاهر أنه استثناء مقصود، وكذلك قال الألوسي:
والظاهر أن النسيان على حقيقته.
ثم أكد اللَّه تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان إلا ما شاء اللَّه أن ينسيه لمصلحة، فقال:
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ومن الجهر: كل ما يفعله الإنسان

أو يقوله علانية، وَما يَخْفى: كل ما يسرّه بينه وبين نفسه، مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، فالذي وعدك بأنه سيقرؤك ويحفّظك عالم بالجهر والسرّ.
وهذا على الرأي بأن قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني النسخ: يعد تعليلا للنسخ، وإذا كان كذلك، كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين.
ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [الأنبياء ٢١/ ١١٠].
ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره، أي توفيقه للأيسر في أحكام الدين والشريعة، فقال:
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا، ونوفقك للطريقة اليسرى والشريعة السمحة في الدين والدنيا، فلا نشرع لك إلا الأيسر، ولا تختار لأمتك إلا الأسهل الذي لا يصعب على النفوس تحمله والقيام به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- ينبغي للإنسان تعظيم اللَّه وتمجيده وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.
ويستحب للقارئ إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أن يقول: «سبحان ربي الأعلى» قاله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
وجماعة من الصحابة والتابعين.
وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحب هذه السورة
، وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد، ويتعرفون بركتها.
والمقصود بالآية تنزيه اللَّه وتسبيحه بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه، حتى

ولو سلمنا أن كلمة اسْمَ ليست صلة زائدة، فإن تسبيح اسمه، أي تنزيهه عما لا يليق، معناه بذاته تعالى وصفاته، أو بأفعاله، أو بأحكامه، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه الفكرة، وهي: هل الاسم نفس المسمى أم لا؟
٢- وصف اللَّه تعالى نفسه بصفات كمال ثلاث: هي أنه الذي خلق جميع الخلائق، وجعلها متناسبة الأجزاء، متناسقة التركيب، وجعل الإنسان في أحسن تقويم.
وقدر لكل مخلوق ما يصلح له، فهداه إليه وأرشده لسلوكه، وعرّفه وجه الانتفاع به.
وأنبت العشب وأخرج النبات والزرع، ثم صيّره باليا هشيما جافا أسود.
وهذه الأوصاف تدل على كمال القدرة الإلهية وتمام الحكمة والعلم.
٣- بشر اللَّه تعالى نبيه ببشارتين:
الأولى- أن يقرأ عليه جبريل الوحي بالقرآن، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه، إلا ما شاء اللَّه أن ينسى، ولكنه لم ينس شيئا منه بعد نزول هذه الآية.
والثانية- التوفيق لأعمال الخير، وتشريع الشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة السهلة.
٤- إن اللَّه تعالى يعلم تمام العلم كل ما يجهر به الإنسان وهو الإعلان من القول والعمل، وكل ما يخفيه، وهو السر، لذا شرع لعباده ما فيه الخير والمصلحة، ورفع عنهم كل ما فيه مشقة وعسر، وحماهم من كل ما فيه ضرر وشر ومفسدة.