سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي القصور كما قال ابن عباس وغيره، والمراد بها عند جمع البروج الاثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية، وقيل: شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل: هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها. وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة: هي النجوم.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم
والله تعالى أعلم بصحته. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال: هي
النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم، وقيل: هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم، وبرج الثور ليس إلّا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه، ولذا يسمى فلك البروج وقيل: السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: ٥] وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل: السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والاثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال: البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، وقيل: لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: ٤٣، ٤٤] أو يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: ١٠٤] وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: ٧٩] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال
والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه، وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤]
وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة» وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين
وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا: «الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم»
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال: هل سألت أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة
، قال: لا ولكن الشاهد محمد. وفي رواية جدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: ٤١] والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: ١٠٣] وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة. وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة. وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس. وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام، وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم. وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الاثنين ويوم الجمعة، وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر، وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج، وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلّا ينادي إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: أمة النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأمم. وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: ٢٠، ٢١] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال: يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك. وقيل: وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب، وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصوم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج، وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك. وقال الشهاب: الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبيّن كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو إن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي. واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد عليه
فيه، وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وأن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل. وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: ١٠] وقال المبرد هو قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢٠] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر | لناموا فما إن من حديث ولا صالي |
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه: «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله تعالى. فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام إنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا قال لك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس من قتلها؟ فقالوا: الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا صفحة رقم 297
الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم، فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردّون حتى لم يبق منهم إلّا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى، فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك: أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخدّ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال: يقول الله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- حتى بلغ- الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ،
وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجيّ قال: شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: ٧٨] فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا، وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به فيها ومن تابعهم ترك. وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي: يا أمه اصبري ولا تماري، فوقعت
وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟ قالت:
المخرج منه أن تخطب الناس فتقول: أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات، فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب، فرجع إلى صاحبته وقال: ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك، قالت: إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، قالت: فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا، قالت: فخدّ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخدّ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه. وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حيمر فخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد
وقيل سبعين ألفا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا، ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا
في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير، وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجيّ السابق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن
، وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكي فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة، ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة، ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن ابن عباس، وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن، فقد قال عصام الدين: لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له فلا تغفل. وقرأ الحسن وابن مقسم «قتّل» بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء.
النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير، أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل. وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك. وقرأ قوم «النّار» بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: ٣٦] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول وقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن، وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود، وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه، وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النَّارِ خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلّا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم، وذو النون يأباه وكذا ذو العرش. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى «الوقود» بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه. وقوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها | وباب على النار الندى والمحلق |
أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بِالْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضمير هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال: نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة، ووصفه عز وجل بكونه عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك بقوله سبحانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل: المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا قال ابن عطية: يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أي بسبب فتنهم ذلك وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة: أي فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى.
وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما صفحة رقم 300