
ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له. قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء الله تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء. واعلم أن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، قال عبد الله ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية ١٨ من سورة محمد ج ٣، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف. وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن الله تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية. والتقوى هي المخرج من الشدائد، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٣ من سورة الطلاق ج ٣ هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» ١ الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنم صفحة رقم 508
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قيح.
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |

محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق الله قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة. قال تعالى «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» ٤ من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» ٥ ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ٦ فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير. روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل. زاد الترمذي أو ميلين. قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين. قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلّى الله عليه وسلم إلى فيه. وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا
صفحة رقم 510
بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. ورواه غيره مرفوعا. وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه الله أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم. إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم. وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال