آيات من القرآن الكريم

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧ

يُقِيمُونَ لَهُمْ مَا هُوَ شِعَارُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، كَانَ التَّطْفِيفُ لِذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ إِثْمِ احْتِقَارِ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ قَدْ صَارَ خُلُقًا لَهُمْ حَتَّى تَخَلَّقُوا بِمُكَابَرَةِ دُعَاةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّنْوِيهِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَن: ٧- ٩] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨٢، ١٨٣] [٧- ٩]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
كَلَّا.
إِبْطَالٌ وَرَدْعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: ٤] مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمُ التَّطْفِيفَ، وَالْمَعْنَى: كَلَّا بَلْ هُمْ مَبْعُوثُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَلِتَلَقِّي قَضَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهِيَ جَوَابٌ عَمَّا تَقَدَّمَ.
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُطَفِّفِينَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوجِبًا كَتْبَهُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ.
والفُجَّارِ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالتَّطْفِيفِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الفُجَّارِ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَيَعُمُّ الْمُطَفِّفِينَ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ، فَوَصْفُ الْفُجَّارِ هَنَا نَظِيرُ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢].
وَشُمُولُ عُمُومِ الْفُجَّارِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ يُعْنَى بِهِ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ الْمَقْصُود الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ عَقِبَ كَلِمَةِ الرَّدْعِ عَنْ أَعْمَالِ الْمُطَفِّفِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ.
وَ «الْكِتَابُ» الْمَكْتُوبُ، أَيِ الصَّحِيفَةُ وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا تُحْصَى فِيهِ

صفحة رقم 194

الْأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يَجْرِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وسِجِّينٌ حُرُوفُ مَادَّتِهِ مِنْ حُرُوفِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ مِنَ الصِّيَغِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقَدْ أَغْرَبَ. رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوا سِجِّينَ عِوَضًا عَنْ سِلْتِينَ، وَسِلْتِينَ كَلِمَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ.
وَنُونُ سِجِّينٌ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً عَنِ اللَّامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا وَأُولَاهَا أَنَّهُ عَلَمٌ لِوَادٍ فِي جَهَنَّمَ، صِيَغَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ مِنْ مَادَّةِ السَّجْنِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ:
الْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، وَرَجُلٌ سِكِّيرٌ، وَطَعَامٌ حَرِّيفٌ (شَدِيدُ الْحَرَافَةِ وَهِيَ لَذْعُ اللِّسَانِ) سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ سِجِّينًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحَبْسِ لِمَنْ فِيهِ فَلَا يُفَارِقُهُ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنَّ مَادَّتَهُ وَصِيغَتَهُ مَوْضُوعَتَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَضْعًا نَوْعِيًّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ وَلَمْ يَطْعَنُوا فِي عَرَبِيَّتِهِ.
وَمَحْمَلُ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُتُبَ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُودَعَةٌ فِي مَكَانٍ اسْمُهُ سِجِّينٌ أَوْ وَصْفُهُ سِجِّينٌ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِتَحْقِيرِهِ، أَيْ تَحْقِيرُ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَكْتُوبَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لِاشْتِمَالِ سَنَدِهِ عَلَى مَجَاهِيلَ.
وَإِنْ حُمِلَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، فَجُعِلَ كِتَابُ الْفُجَّارِ مَظْرُوفًا فِي سِجِّينٍ مَجَازٌ عَنْ جَعْلِ الْأَعْمَالِ الْمُحْصَاةِ فِيهِ فِي سِجِّينٍ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ كَوْنِ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ.
وَجُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَين جملَة: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ مُعْتَرضَة بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَجُمْلَةِ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَهُوَ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ السَّجِينِ تَهْوِيلَ تَفْظِيعٍ لِحَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ وَتَقَدَّمَ مَا أَدْراكَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٧].
وَقَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ إِلَى كِتابَ الفُجَّارِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ أَيْ كِتَابُ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي

صفحة رقم 195
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية