آيات من القرآن الكريم

كِتَابٌ مَرْقُومٌ
ﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮ ﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷ

وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكّر وهو يتألم، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت فى متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريّا.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
شرح المفردات
عليين: أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما؟
أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت: أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور، ونضرة النعيم: بهجته ورونقه، ورحيق: أي شراب خالص لا غش فيه، مختوم: أي ختمت أوانيه وسدت، ختامه مسك: أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين، وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالعاملين، والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خاط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجرى من أعلى

صفحة رقم 79

إلى أسفل، وهو أشرف شراب فى الجنة، ويكون صرفا للمقرّبين ممزوجا لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنة، والمقربون: هم الأبرار الذين سلف ذكرهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين، وبين منزلتهم عند الله يوم القيامة- أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.
وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.
وفى ذلك ترغيب فى الطاعة، وحفر لعزائم المحسنين، ليزدادوا إحسانا، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين.
(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم.
كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين- إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم.
ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال:
(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو؟
ثم فسره وبين المراد منه فقال:

صفحة رقم 80

(كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي إن كتابهم فى هذا السجلّ الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم، وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار.
وقد يكون المراد- إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار.
وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار- أخذ يفصل حال الأبرار فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم، الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله- لفى لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان فس.
ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال:
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.
ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال:
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك فمن ضحك، إلى هدوء بال، إلى استبشار كما قال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ».
وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.

صفحة رقم 81

وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجرى فى الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله: «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ».
ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال:
(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء.
(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال: هذا مما قال الله. «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
ثم بين هذا التسنيم فقال:
(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا، وقد وصفهم الله بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم.
وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر، إذا شاءوا أن يمزجوه.
وقصارى ما سلف- أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس، وبما يشوّقها إليه، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه، وحثا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك.
إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم، وبلوغ الغاية فى إيلامهم، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة، أو يسمع أن النعمة تنتظره.

صفحة رقم 82
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية