
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) تأويله: أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها، وحجبوا عن اللَّه - تعالى - بتكذيبهم بذلك اليوم، والا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق، لم يكونوا يصلونها؛ فيعرفون حتى يقروا بذلك بقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ).
* * *
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ): ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدِّين، وذلك أول منازل الكفر، فإذا أريد بالفجار: الكفار، أريد بالأبرار: الذين آمنوا؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون.
والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر، فسمي: بارا؛ إذا كثر منه البر، والفاجر: هو الذي يكثر منه فعل الفجور؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) ذكر شهود المقربين في ذكر كتاب الأبرار، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله، والدعاء له، وغير ذلك.
وقيل: المقربون: هم مقربو أهل كل سماء.
وقوله - تعالى -: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) البَرُّ هو الذي يبذل ما سئل عنه، ويجيب إلى ما دعي إليه، فإذا أجاب اللَّه - تعالى - فيما دعاه إليه من التوحيد، ووفَّى بأوامره، وانتهى عن مناهيه، فهو من الأبرار.
ثم ما ذكرنا يكون بوجهين:

أحدهما: بالاعتقاد، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة، فهذا قد وفَّى بما طلب منه قولا وفعلا؛ فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار.
والثاني: أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا، ولم يف ما اعتقده بفعله، فالحكم في مثله الوقف، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود، بل لله - تعالى - أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته، وله أن يعفو عه بفضله وسعة رحمته.
والفجور: هو الميل، والميل يكون بوجهين:
أحدهما: بترك الاعتقاد والفعل جميعا.
والثاني: ميل في المعاملة، وهو أن يخالف فعله عقده.
فالذي وجد منه الميل على الوجهين جميعا، يحل به ما أوعد لا محالة، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة.
قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر جميعا، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة، وبالبر جهة، وذلك أن التقوى: هي أن يتقي المهالك، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا، وهذا هو معنى البر أيضا، فإذا ذُكرا معًا أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم، وأريد بالبر إتيان المحاسن، وكذلك الإيمان، إذا ذكر بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا، وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة لله تعالى، لا يجعل لأحد فيها شركا، والإيمان أن يصدق اللَّه - تعالى - بأنه رب كل شيء، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت أما يقتضيه ظاهره من جعل، الأشياء كلها سالمة له؛ فهذا معنى قوله: إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة له، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره؛ كقوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...) الآية.