فيعلم ما فيها، فيقول: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف ١٨/ ٤٩].
وتكشط السماء كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره، وفي هذا غاية الرهبة.
وتوقد النار للكفار ويزداد في إحمائها، وتدنى الجنة وتقرب من المتقين، فيتحدد مصير الخلائق.
حين حدوث هذه الوقائع الجسام، تعلم كل نفس علم اليقين ما عملت من خير وشرّ، وتعرف مصيرها.
جاء في الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلّمه الله، ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدّمه، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدّم بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتّقي النار، ولو بشقّ تمرة، فليفعل».
الحلف لإثبات صدق الوحي القرآني ونبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١٥ الى ٢٩]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
الإعراب:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ جواب القسم لأن معنى فَلا أُقْسِمُ.. أقسم.
وَما صاحِبُكُمْ عطف على جواب القسم. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ عِنْدَ: متعلق ب مَكِينٍ.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ عطف أيضا على جواب القسم.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ تقديره: إلى أين تذهبون؟ إلا أنه حذف حرف الجر كما حذف من قولهم: ذهبت الشام، أي إلى الشام.
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَنْ: بدل من قوله الْعالَمِينَ بدل بعض من كل.
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ببخيل، وقرئ «بظنين» بالظاء، أي بمتهم.
البلاغة:
بِالْخُنَّسِ والْكُنَّسِ بينهما جناس ناقص.
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ استعارة تصريحية، شبه إقبال النهار وانتشار الضياء بنسمات الهواء العليل، واستعار لفظ التنفس لإقبال النهار بعد الظلام الدامس.
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ كناية، كنى عن محمد صلّى الله عليه وسلّم بلفظ صاحِبُكُمْ.
أَمِينٍ ومَكِينٍ بينهما جناس ناقص غير تام.
بِالْخُنَّسِ، والْكُنَّسِ، وعَسْعَسَ، وتَنَفَّسَ إلخ سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، وفَلا: لتأكيد الخبر. بِالْخُنَّسِ بالكواكب الرواجع، من خنس يخنس: إذا تأخر، وواحدها: خانس: أي منقبض مستخفي، فهي التي ترجع في مجراها وراء الشمس، وهي عند الجمهور: الكواكب السيارة كالشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري. الجواري السيارة التي تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس. الْكُنَّسِ التي تكنس في أبراجها، أي تستتر، فهي تختفي تحت ضوء الشمس، من كنس الظبي أو الوحش: إذا دخل كناسة، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، وقيل: المراد الكواكب الخمسة السيارة، فخنوسها: رجوعها إلى أول البرج، وكنوسها: اختفاؤها نهارا تحت ضوء الشمس، وغيبتها في المواضع التي تغيب فيها عن البصر نهارا ثم تظهر ليلا. والخلاصة: أن بِالْخُنَّسِ على الأرجح: هي جميع الكواكب، كما جاء في الصحاح لأنها تخنس (تختفي) نهارا، وتختفي عن البصر في المغيب، وتظهر ليلا، ثم تكنس وتستتر في مغيبها تحت الأفق، كما تكنس
الظباء في المغار، فكل من بِالْخُنَّسِ والْكُنَّسِ يختفي بعد ظهوره. والأصح أن معناها النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا.
عَسْعَسَ أقبل بظلامه، أو أدبر، فهو من ألفاظ الأضداد. تَنَفَّسَ أضاء وظهر نوره. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ أي إن هذا المقسم عليه وهو القرآن لقول منقول نازل من رسول كريم عزيز على الله تعالى وهو جبريل عليه السلام، أضيف القول إليه، لنزوله به، وقوله عن الله تعالى. ذِي قُوَّةٍ شديد القوى، حافظ. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ الله تعالى. مَكِينٍ ذي مكانة وجاه عند ربّه، يعطيه ما سأل. مُطاعٍ تطيعه ملائكة السماء. ثَمَّ هنالك.
أَمِينٍ على الوحي والرسالة.
وَما صاحِبُكُمْ محمد صلّى الله عليه وسلّم، بِمَجْنُونٍ كما زعمتم. وَلَقَدْ رَآهُ رأي محمد صلّى الله عليه وسلّم جبريل على صورته التي خلق عليها. بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الأفق الواضح، وهو مطلع الشمس الأعلى.
وَما هُوَ محمد صلّى الله عليه وسلّم. الْغَيْبِ الوحي وخبر السماء. بِضَنِينٍ ببخيل مقصر بالتعليم والتبليغ، فينتقص منه شيئا، وقرئ: «بظنين»، أي بمتهم. وَما هُوَ بِقَوْلِ أي القرآن.
شَيْطانٍ مسترق السمع. رَجِيمٍ مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيّ طريق تسلكون بعد إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وقد قامت الحجة عليكم؟ إِنْ هُوَ ما هو. إِلَّا ذِكْرٌ عظة وعبرة. لِلْعالَمِينَ الإنس والجن. أَنْ يَسْتَقِيمَ على الطريق الواضح باتباع الحق. وَما تَشاؤُنَ الاستقامة على الحق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلا وقت أن يشاء الله استقامتكم. رَبُّ الْعالَمِينَ مالك الخلق كلهم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٩) :
وَما تَشاؤُنَ..: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال: لما أنزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: ذاك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
التفسير والبيان:
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ أي أقسم بجميع الكواكب التي
تخنس أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس، والتي تجري في أفلاكها، وتكنس بالليل، أي تظهر بالليل في أماكنها، كما تظهر الظباء من كنسها، أي بيوتها، وهي جمع كناس: وهو الذي يختفي فيه الوحش. وقوله: فَلا أُقْسِمُ يراد بها القسم في أسلوب العرب، ويراد بها تأكيد الخبر، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. وإنما أقسم سبحانه بهذه الكواكب، لما في تبدل أحوالها من الظهور والخفاء من الدلالة على قدرة مبدعها ومصرّفها.
ويرى الجمهور: أن المراد بها الكواكب السيارة كلها، ويرى بعضهم أنها ما عدا الشمس والقمر.
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي والليل إذا أقبل بظلامه، لما فيه من الرهبة، وهذا هو الأولى، أو أدبر وولى، لما في إدباره من كشف الغمة. والصبح إذا اقبل وأضاء بنوره الأفق لأنه يقبل بروح نشطة ونسيم عليل.
قال ابن كثير: عَسْعَسَ: أقبل، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا، لكن الإقبال هاهنا أنسب، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل ٩٢/ ١- ٢] وقال تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى ٩٣/ ١- ٢] وقال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام ٦/ ٩٦]، وغير ذلك من الآيات.
وقال كثير من علماء الأصول: إن لفظة عَسْعَسَ تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما، والله أعلم «١».
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا هو المقسم عليه، أي إن القرآن تبليغ رسول كريم، ومقول قاله جبريل عليه السلام الشريف الكريم العزيز عند الله، ونزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فليس القرآن من كلام البشر، وإنما وصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبريل الذي تلقاه عن ربّه عزّ وجلّ.
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذه أوصاف أربعة أخرى لجبريل عليه السلام، فهو شديد القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل، وذو رفعة عالية، ومكانة سامية عند الله سبحانه، ومطاع بين الملائكة، يرجعون إليه ويطيعونه، فهو من السادة الأشراف، مؤتمن على الوحي والرسالة من ربّه، وعلى غير ذلك. وإنما قال: ثَمَّ أي عند الله، وقرئ «ثم» تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.
ووصف جبريل بالأمين تزكية عظيمة من الله لرسوله الملكي وعبده جبريل، كما زكى عبده ورسوله البشرى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.
وبعد بيان أوصاف الرسول الملك، ذكر تعالى وصف المرسل إليه، فقال:
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم يا أهل مكة بمجنون، كما تزعمون.
وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.
ونظير الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف ٧/ ١٨٤]، وقوله: قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ ٣٤/ ٤٦]، وقوله: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان ٤٤/ ١٣- ١٤].
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي قد رأى محمد جبريل على صورته الأصلية، له ست مائة جناح، في مطلع أو أفق الشمس الأعلى من قبل المشرق، بحيث
حصل له علم ضروري (بدهي) بأنه ملك مقرب يطمأن لنزوله بالوحي عليه، لا شيطان رجيم. وهذا كما جاء في سورة النجم: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [١١- ١٤].
وهذه الرؤية بعد رؤيته في بدء الوحي عند غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته، له ست مائة جناح. وقيل: هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى، وسمي ذلك الموضع أفقا مجازا، وقد كانت له عليه السلام رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه «١».
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ليس محمد صلّى الله عليه وسلّم على ما أنزله الله عليه من الوحي وخبر السماء ببخيل مقصر في التعليم والتبليغ، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه دون أي انتقاص، وهو ثقة مؤتمن لا يأتي بشيء من عند نفسه، ولا يبدل ولا يغير أي حرف أو معنى فيه.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي وما القرآن بقول شيطان يسترق السمع، مرجوم بالشهب، فالقرآن ليس بشعر ولا كهانة، كما قالت قريش، وهذا كقوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٠- ٢١٢].
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقا من عند الله تعالى؟
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم بما ينفعهم، وتحذير لهم عما يضرهم، لمن
أراد من البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة، فمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه مناجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه.
قال الزمخشري: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من لِلْعالَمِينَ وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، وإن كانوا موعوظين جميعا.
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما تشاؤون الاستقامة ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، فليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى ربّ الإنس والجن والعالم كله. آمنت بالله وبما يشاء، فلا يقدر أحد على شيء إلا بما يخلق فيه من قوة، وبما يودع الله فيه من قدرة يتمكن من توجيهها نحو الإيمان والخير أو نحو الكفر والشر، وهذا يعني أن الله أودع في الناس قدرة الاختيار، بدليل الآيات الأخرى التي تنفي الإجبار والإكراه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك، كما قال القرطبي «١».
٢- أقسم الله تعالى بجميع الكواكب التي تخنس (تختفي) بالنهار وعند غروبها، وخنوسها: غيبتها عن البصر بالنهار، والتي تجري في أفلاكها، وتكنس، وكنوسها: ظهورها للبصر في الليل، كما يظهر الظبي أو الوحش من كناسه، ثم تغيب وتستتر في مغيبها تحت الأفق، لما في تحركها وظهورها مرة،
واختفائها مرة أخرى من الدليل على قدرة خالقها ومصرّفها.
وأقسم الله أيضا بالليل إذا أقبل بظلامه لما فيه من السكون والرهبة، وبالصبح إذا أضاء وامتد حتى يصير نهارا واضحا، لما فيه من التفتح والبهجة.
والمقسم المحلوف عليه هو أن القرآن الكريم نزل به جبريل: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة ٥٦/ ٨٠]. وإنما نسب الكلام إلى جبريل عليه السلام باعتبار أنه الواسطة بين الله وبين أنبيائه ورسله.
٣- وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمسة أوصاف، هي: كريم عزيز على الله، ذو قوة في الحفظ وأداء، طاعة الله ومعرفته وترك الإخلال بها، وذو مكانة وجاه عند ربّ العرش، ومطاع بين الملائكة فهو من السادة الأشراف، وأمين على وحي الله ورسالاته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل.
وقوله: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ.. هذه العندية ليست عندية المكان، كقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء ٢١/ ١٩] وليست عندية الجهة، بدليل
قوله في الحديث: «أنا عند المنكسرة قلوبهم»
بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم «١».
٤- ردّ الله تعالى على المشركين المتقولين بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون كما زعموا، بأنهم أعلم الناس بأمره، وبأنه أعقل الناس وأكملهم.
٥- رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، له ست مائة جناح بالأفق المبين، أي بمطلع الشمس من قبل المشرق، فهو مبين لأنه ترى الأشياء من جهته، وذلك ليتأكد ويطمئن بأنه ملك مقرب، لا شيطان رجيم.
٦- أخبر الله تعالى عن نبيّه بأنه لا يضنّ بشيء من الغيب أي الوحي وخبر
السماء على أحد، وإنما يقوم بتعليمه وتبليغه دون انتقاص شيء منه، قال مجاهد:
لا يضنّ عليكم بما يعلم، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه.
٧- بعد وصف كل من الرسول الوسيط جبريل والمرسل إليه بالأمانة في تبليغ الوحي، حسم الأمر في شأن القرآن، فأعلن بأن القرآن ليس بقول شيطان مرجوم ملعون، كما قالت قريش، ولا بقول كاهن ولا مجنون، وإنما هو موعظة وبيان وهداية للخلق أجمعين، لمن أراد أن يستقيم أي يتبع الحق ويقيم عليه.
٨- حكم الله بعد هذا الوصف على قريش بالضلال والضياع بقوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأيّ طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم، أو بعد هذه البيانات التي أوضحتها لكم.
٩- لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه، وليس للإنسان مشيئة إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة، وفعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة. والله هدى بالإسلام، وأضل بالكفر.
والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري: والله هدى بالإسلام، وأضل بالكفر.
والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها.
قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام: ٦/ ١١١]، وقال سبحانه: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: ١٠/ ١٠٠]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦].
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطارمكيّة، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة (الانفطار)، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت، كما قال سبحانه: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل ٧٣/ ١٨].
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة وما قبلها وسورة الانشقاق في وصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، كما تقدم.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية تتحدث عن أمور في العقيدة، وهي هنا بعض أمارات القيامة وما يصحبها من تبدل في الكون، ووقوع أحداث جسام، ووصف أحوال الأبرار والفجار يوم البعث، كالسورة المتقدمة.
ابتدأت بوصف الأحداث الكونية التي ترى في القيامة وهي انشقاق السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، ثم الإخبار عن علم كل نفس بما قدّمت وأخّرت: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ.. [الآيات: ١- ٥].
ثم ندّدت بجحود الإنسان نعم ربّه، وبتقصيره في مقابلة الإحسان بالشكر والعرفان: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.. [الآيات: ٦- ٨]. صفحة رقم 95
ثم ذكرت سبب هذا الجحود وهو إنكار البعث، وبيّنت أن أعمال الإنسان كلها محفوظة مسجلة عليه، يقوم برصدها ملائكة كرام كاتبون: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ.. [الآيات: ٩- ١٢].
وأردفت ذلك ببيان مصير الناس وانقسامهم إلى فريقين: أبرار وفجّار، وأيلولتهم إلى نعيم أو جحيم: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ.. [الآيات: ١٣- ١٦].
وختمت السورة بالتحذير من يوم الدّين، أي الجزاء والقيامة، واستقلال كل إنسان بالمسؤولية عن نفسه، وتفرد الله بالحكم والأمر: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ.. [الآيات: ١٧- ١٩].
والخلاصة: أن الله تعالى ذكر في هذه السورة السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه.
فضلها:
أخرج الإمام أحمد كما تقدم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي العين، فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ».
وأخرج النسائي، وأصل الحديث في الصحيحين عن جابر قال: قام معاذ، فصلى العشاء الآخرة فطوّل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفتّان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ووَ الضُّحى وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ؟!