آيات من القرآن الكريم

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
ﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰ

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي إن هذه التذكرة بينة ظاهرة، فلو أن إنسانا أراد أن يتدبرها، ويتفهم معناها، ويتعظ بها، ويعمل بموجبها- لقدر على ذلك واستطاعه، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادا واستكبارا.
(٢) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلغونها للناس.
وكل من الملك والنبي سفير، وكل منهما رسول، والملائكة كرام على الله كما قال: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا، ولا يجترحون إثما، كما قال سبحانه: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
شرح المفردات
قدره: أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة، طورا بعد طور، وحالا بعد حال، والسبيل: الطريق، يسره: أي سهل له سلوك سبل الخير والشر، فأقبره: أي جعل له قبرا يوارى فيه، أنشره: أي بعثه بعد الموت، كلا: زجر له عن ترفعه وتكبره.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد- أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما

صفحة رقم 43

كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه، ولا يفكر فى منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوّره فى أحسن الصور، فى أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع فى لحده، إلى أمد قدره الله فى علمه، ثم يبعثه من قبره، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره، واجتناب نواهيه!
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث:
المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله:
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله:
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.

صفحة رقم 44

وقد أثر عن بعضهم: كيف يتكبر الإنسان، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة.
وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله: كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.
وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله:
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر، فآتاه قدرة العمل، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر، والتحذير من الشر، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.
وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله:
(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.
وفى قوله: «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهو القادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.
ثم أكد كفرانه بالنعم فقال:
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الآثار.

صفحة رقم 45
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية