آيات من القرآن الكريم

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
ﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅ ﮇﮈ ﮊﮋ ﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰ

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
[الكهف ١٨/ ٢٨].
٥- أراد الله توفير جهد نبيه صلّى الله عليه وسلّم في دعوة رؤساء قريش إلى الإسلام، وهم في الحقيقة لن يؤمنوا، وكفاهم ما بلّغهم به من دعوته إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأوثان، وليس عليه بأس بعدئذ في ألا يهتدوا ولا يؤمنوا، فإنما هو رسول، ما عليه إلا البلاغ، ولا يصح أن يكون الحرص على إسلامهم مؤديا إلى الإعراض عمن أسلم، للاشتغال بدعوة من لم يسلم.
القرآن موعظة وتذكرة ونعم الله في نفس الإنسان
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١١ الى ٢٣]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
الإعراب:
فِي صُحُفٍ خبر ثان ل إِنَّها وما قبله اعتراض، أو خبر لمبتدأ محذوف.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ما إما تعجبية، وإما استفهامية.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ السبيل منصوب بفعل يفسره الظاهر، للمبالغة في التيسير.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لَمَّا حرف جزم، معناه النفي لما قرب من الحال. وما أَمَرَهُ تقديره: لما أمر به، فحذف الباء من «به» ثم حذف الهاء العائدة إلى «ما» فصار: لما أمره.

صفحة رقم 63

البلاغة:
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ؟ أسلوب التعجب، تعجب من إفراط كفره، مع كثرة إحسان الله إليه.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إجمال، ثم تفصيل بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ كناية بالسبيل عن خروجه من فرج الأم.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو المسمى، بالسجع المرصع.
المفردات اللغوية:
كَلَّا كلمة ردع وزجر، والمراد هنا زجر المخاطب عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله، أي لا تفعل مثل ذلك. إِنَّها أي الهداية أو آيات القرآن. تَذْكِرَةٌ موعظة، وهي في معنى الذكر والوعظ، لذا ذكر الضمير العائد إليها في قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي اتعظ به، أو حفظه. والمراد أن هذا القرآن، أو هذا التأديب الذي عرّفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي إن التذكرة مثبتة كائنة مودعة في صحف شريفة عند الله.
مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر في السماء. مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدي الشياطين، وعن النقص.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كتبة من الملائكة ينسخونها من اللوح المحفوظ. كِرامٍ إعزاء على الله تعالى.
بَرَرَةٍ أتقياء مطيعين لله تعالى، وهم الملائكة.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في كفران النعم أو استفهام توبيخ، أي ما حمله على الكفر؟! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لما أنعم عليه، والاستفهام للتحقير.
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ من مني ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر خلقه. فَقَدَّرَهُ أي أنشأه في أطوار وأحوال مختلفة. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهّل له مخرجه من بطن أمه، وهو كناية، أو سهل له طريق الخير والشر. فَأَقْبَرَهُ جعله في قبر يستره، ويوارى فيه. أَنْشَرَهُ بعثه بعد الموت. كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه من الترفع والتكبر. لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره الله به بنحو كامل إذ لا يخلو أحد من التقصير في شيء ما.

صفحة رقم 64

سبب النزول: نزول الاية (١٧) :
قُتِلَ الْإِنْسانُ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم.
المناسبة:
بعد عتاب الله لنبيه على عبوسه في وجه عبد الله بن أم مكتوم بسبب انشغاله مع رؤساء قريش، سرّى الله عنه بقوله: كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، وعرّفه بأن الهداية لا تحتاج لجهود ومحاولات كثيرة، وأن هذا التأديب الذي أوحى إليه به كان لإجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا، وهذا القرآن مجرد تذكرة لتنبيه الغافلين، فمن رغب فيها، اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، وهي مودعة في صحف شريفة القدر.
وبعد بيان حال القرآن وأنه كتاب الذكرى والموعظة، ذمّ الله الإنسان ووبخه على كفران نعم ربه، وتكبره وتعاظمه عن قبول هداية الله له، وأنه استحق أعظم أنواع العقاب لأجل ارتكابه أعظم أنواع القبائح.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي لا تفعل مثل فعلك مع ابن أم مكتوم، من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى، وإن هذه الآيات أو السورة أو القرآن موعظة، جدير بك وبأمتك أن تتعظ بها وتعمل بموجبها.

صفحة رقم 65

وفي الآية تعظيم شأن القرآن، فسواء قبله الكفرة أم لا، فلا يؤبه بهم، ولا يلتفت إليهم.
ثم وصف تلك التذكرة بأمرين:
١- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي إن هذه تذكرة بيّنة ظاهرة، مقدور على فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها، فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بموجبها.
٢- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ أي إنها تذكرة مثبتة مودعة كائنة في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، ولنزولها من اللوح المحفوظ، رفيعة القدر عند الله، منزّهة لا يمسّها إلا المطهرون، مصانة عن الشياطين والكفار، لا ينالونها، ومنزّهة عن النقص والضلالات، محمولة بأيدي ملائكة سفرة وسائط يسفرون بالوحي بين الله ورسله لتبليغها للناس، من السفارة: وهي السعي بين القوم.
وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، أتقياء مطيعون لربهم، صادقون في إيمانهم، أي إن الله تعالى وصف الملائكة بصفات ثلاث: هي كونهم سفراء ينزلون بالوحي بين الله وبين رسله، وكرام على ربهم، ومطيعون لله، كما قال تعالى:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٦] وقال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم ٦٦/ ٦].
قال ابن جرير الطبري: والصحيح أن السفرة: الملائكة، والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.
أخرج الجماعة أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها

صفحة رقم 66

قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو عليه شاق، له أجران.
ثم ذم الله تعالى من أنكر البعث والنشور من الناس بقوله:
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أي لعن الإنسان الكافر أو قتل أو عذب ما أشد كفره؟! وهذا دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في الكفر، ودليل على سخط عظيم وذم بليغ، يدل على قبح حاله، وبلوغه حدا من العتو والكبر لا يستحق معه الحياة. وهذا جار على أسلوب العرب عند التعجب من شيء، فيقال: قاتله الله ما أفصحه؟! والمراد بالكلام الملائم في حقه تعالى هنا:
إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
ثم ذكّره بخلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال تعالى:
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي من أي شيء مهين حقير، خلق الله هذا الكافر بربّه؟ فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة، إنه تعالى خلقه من ماء مهين، وقدّره أطوارا وأحوالا، وسوّاه وهيّأه لمصالح نفسه، وأتمّ خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته، وزوّده بطاقات العقل والفكر والفهم، والقوى والحواس للاستفادة من نعم الله تعالى، فلا يستعملها فيما يغضب الله، وإنما عليه استعمالها في رضوان الله.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ إما كناية عن خروجه بسهولة من فرج أمه، وإما أنه تعالى يسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر، وقال سبحانه:
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر ٧٦/ ٣].
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أنه بعد خلقه له وتمكينه من الحياة قبض روحه، وجعله في قبر يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله ملقى على

صفحة رقم 67

وجه الأرض تأكله السباع والطير، ثم إذا شاء الله إنشاره أحياه بعد موته، أو بعثه بعد موته، في الوقت الذي يريده الله تعالى. ومنه يقال: البعث والنشور.
والإماتة ستر للعيوب بعد الهرم أو المرض، والإقبار تكرمة حيث لم يلق للطير والسباع، والإنشار أي البعث عدل وفضل. ثم لامه على تقصيره، وأكد كفره بالنعم، فقال:
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، فبعض الناس أخل بالكفر، وبعضهم بالعصيان، وبعضهم بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، وما قضى ما أمره الله إلا القليل. والآية تدل على العجب من حال الإنسان، فإنه قد ينكر خالقه بعد قيام الأدلة على وجوده في نفسه وفي السموات والأرض، وقد يجحد نعمة ربه، فلا يقابلها بالحمد والشكر وعرفان الجميل، وينسبها إلى نفسه، وقد يعصي الله بالرغم من وجود أدلة الهداية والرشد، وإدراكه مخاطر العصيان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم كتاب تذكرة وموعظة وتبصرة للناس جميعا، فمن أراد اتعظ بالقرآن وانتفع به وعمل بموجبه. وهذا دليل على حرية الاختيار.
٢- القرآن كتاب جليل عند الله، فهو مثبت مودع في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، رفيعة القدر عند الله، مطهرة من كل دنس، مصانة عن أن ينالها الكفار، محمولة بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها، مطيعون

صفحة رقم 68

لله، صادقون لله في أعمالهم، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة ٥٦/ ٧٧- ٧٩].
٣- لعن الإنسان حيث كفر بالقرآن، وما أظلمه حيث أنكر البعث والنشور، فالله قادر على إعادته كما قدر على بدء خلقه، فإنه خلقه من ماء يسير مهين، ثم جعله يمر بأطوار بعد كونه نطفة، إلى وقت إنشائه خلقا آخر، وبأحوال من كونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، حسنا أو دميما، قصيرا أو طويلا، فكيف يليق به التكبر والتجبر عن أوامر الله؟ ثم يسر له سلوك طريق الخير والشر، أي بيّن له ذلك، كما قال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الدهر ٧٦/ ٣] وقال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
ثم جعل له قبرا يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والسباع. وهذا دليل على أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم، سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا، دون أن يطرحوا على وجه الأرض، طعمة للسباع، كسائر الحيوان.
ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته.
وكل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه إذا شاء أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره أنشره. وهذه الانتقالات أو المراتب ثلاث: الأولى- بداية خلقه من ماء مهين، وهذا دليل على زيادة التقرير في التحقير، والثانية المتوسطة- التمييز بين الخير والشر، والثالثة الأخيرة- الإماتة والإقبار، والإنشار، أي الإحياء بعد البعث.
٤- كل إنسان إلا القليل مقصر في حق الله، فلا يقضي أحد ما أمر به، من الإيمان والطاعة، والتأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلق الله وبينات حكمته.

صفحة رقم 69
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية