
وقوله تعالى: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يعدمه ويهلكه؛ لأن الباطل باطل، وكان الكفر باطلاً قبل بدر، ولكن معنى إبطاله ههنا: إعدامه، كما أن معنى إحقاق الحق: إظهاره، وإلى هذا [أشار ابن عباس في معنى (يبطل الباطل) فقال: يريد: ﴿وَيَقْطَعَ (١) دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ٧] ألا ترى أنه] (٢) أشار إلى إعدامهم وإهلاكهم (٣)، وقال صاحب النظم: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يفني الكفر، والآية بيان عن إرادة الله تعالى إظهار الحق وإعدام الباطل به على كره من المشركين، وإعزاز للمسلمين.
٩ - قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، يجوز أن يكون العامل في (إذ)، (ويبطل الباطل) فتكون الآية متصلة بما قبلها (٤)، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير: واذكر إذ، بمعنى التذكير بالنعمة (٥).
وقوله تعالى: ﴿تَسْتَغِيثُونَ﴾ أي تطلبون منه المغوثة (٦) [والغوث والإغاثة] (٧)، ويقول الواقع في بلية: أغثني، أي: فرج عني، ومعنى الإغاثة والغوث والمغوثة: سد الخلة في وقت الحاجة (٨)، وقال المفسرون (٩):
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٣) لم أجد من روى عن ابن عباس ما ذكره الواحدي سوى الفيروز أبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٧، حيث قال: (ويبطل الباطل): يهلك الشرك وأهله.
(٤) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٩.
(٥) في (ج) و (س): التذكر.
(٦) في (م): (المعونة).
(٧) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٨) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (غوث) ٤/ ٤٠٠.
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٨٩، والثعلبي ٦/ ٤١ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٢.

﴿تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، وذلك أن المهاجرين والأنصار لما رأوا أنفسهم في قلة عدد استغاثوا، قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (١)، قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - ﷺ - إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف (٢) استقبل القبلة (٣) ومد يده يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، الله إن تهلك هذه العصابة من أهل (٤) الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ (٥).
وذكرنا معنى الإمداد في آخر سورة الأعراف وفي سورة آل عمران.
وقوله تعا لي: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وقرأ نافع (٦) بفتح الدال (٧)،
(٢) النيف: من واحد إلى ثلاث، وكل ما زاد على العقد فهو نيف.
انظر" "لسان العرب" ٨/ ٤٥٧٩ (نوف). ورواية المصنف هذه موافقة لرواية الإمام أحمد في "المسند"، وفي "صحيح مسلم": ثلاثمائة وتسعة عشر، وفي "سنن الترمذي": ثلاثمائة وبضعة عشر.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (م).
(٥) رواه بلفظ مقارب مع زيادة: مسلم في "صحيحه" (١٨٦٣) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ٣/ ١٣٨٣ (١٨٦٣)، والترمذي (٣٢٧٥) "كتاب تفسير القرآن"، سورة الأنفال، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٠.
(٦) هو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم المدني، أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته.
(٧) انظر: كتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني ص ١١٦، و"تقريب النشر في القراءات العشر" لابن الجزري ص ١١٨، وقد قرأ بالفتح أيضاً أبو جعفر ويعقوب، انظر: المصدر السابق، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" للدمياطي ص ٢٣٦.

قال الفراء: أما (مُرْدِفين) متتابعين، و (مُرْدَفين) فُعل بهم (١)، وقال الزجاج: يقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، ومعنى (٢) (مردفين) يأتون فرقة بعد فرقة (٣).
واختلف أهل اللغة في (ردف وأردف) والأكثرون على أنهما بمعنى. [قال] (٤) ثعلب عن ابن الأعرابي (٥): يقال: (ردفته وأردفته واحد) (٦). وقال أبو عبيد عن أبي زيد (٧): ردفت الرجل وأردفته: إذا ركبت خلفه، وأنشد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا | ظننت بآل فاطمة الظنونا (٨) (٩) |
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: فمعنى.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٢.
(٤) إضافة من المحقق.
(٥) هو: محمد بن زياد بن الأعرابي أبو عبد الله الكوفي الهاشمي مولاهم، تقدمت ترجمته.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف)، ونصه: ردفته وأردفته بمعنى واحد.
(٧) هو: سعدي بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، صاحب النحو واللغة، كان صدوقًا علامة حافظًا لنوادر والشعر، توفي سنة ٢١٤ هـ.
انظر: "مراتب النحويين" ص ٧٣، و"نزهة الألباء" ص ١٠١، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٠، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٤٩٤.
(٨) البيت لحزيمة بن نهد بن زيد بن ليث القضاعي، وهو شاعر جاهلي قديم. وحزيمة: بالحاء المهملة المفتوحة، وكسر الزاي، وانظر: " الأغاني" ١٣/ ٧٨، و"معجم ما استعجم" ١/ ١٩، و"المعارف" ص ٣٤٢. وقيل إن البيت لخزيمة -بالخاء المعجمة- ابن مالك بن زيد. انظر "اللسان" (ردف) ٣/ ١٦٢٥.
والمعنى: إذا الجوزاء تبعت الثريا، وذلك إبان اشتداد الحر وجفاف المياه، وتفرق الناس في طلبها، فحينئذٍ تغيب عنه محبوبته فتسيء ظنونه، وتشتد همومه.
(٩) انظر: قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).

ومعناه: جاءت على ردفها، أي: تبعتها ورؤيت (١) خلفها.
وفصل آخرون بينهما، فقال الزجاج: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل: إذا جئت بعده (٢).
وقال شَمِر: ردفت وأردفت: إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير (٣).
فمن قرأ (مردِفين) بكسر الدال (٤) فمعناه: أن بعضهم في إثر بعض، كالقوم الذين ترادفوا على الدواب؛ كما ذكره الفراء (٥) والزجاج (٦)، وهو قول قتادة والسدي: متتابعين (٧)، واختار أبو حاتم هذه القراءة، وقال: معناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم، يقال: ردفه وأردفه: إذا جاء بعده؛ كما قال: أردفت الثريا: أي جاء (٨) بعدها (٩). وروي عن أبي عمرو: أردف بعضهم بعضًا: من الإرداف، وهو أن يحمل الرجل صاحبه خلفه (١٠)، وأنكر أبو عبيد هذا وقال: لم يسمع هذا في صفة الملائكة (١١).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).
(٤) وهي قراءة السبعة غير نافع، انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٤، و"التيسير في القراءات السبع" ص ١١٦، و"تقريب النشر" ص ١١٨.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٧) رواه عنهما ابن جرير ٩/ ١٩١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٦٣.
(٨) هكذا في جميع النسخ.
(٩) انظر: قول أبي حاتم في "الوسيط" ٢/ ٤٤٦.
(١٠) انظر قول أبي عمرو في: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩١، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(١١) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٧٦.

ومن قرأ بفتح الدال فمعناه: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم وأمدهم بهم، وهو قول مجاهد، قال: الإرداف: إمداد المسلمين بهم (١)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (٢)، وروي عن الفراء وأبي عبيدة قالا: من فتح الدال أراد: جيء بهم بعدهم وأمدوا بهم، فهم ممدون بهم (٣)، وتفسير ابن عباس يدل على القراءتين لأنه قال: مع كل ملك ملك (٤)، وهذا يحتمل الوجهين؛ لأنك إن كسرت كان معناه: متتابعين، وإن فتحت كان المعني: أنهم جعلوا كذلك، قال أبو علي: من كسر الدال احتمل وجهين أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، كما تقولي: أردفت زيدًا دابتي، فيكون المفعول الثاني محذوفًا من الآية، وحذف المفعول كثير (٥).
ويقوي هذا الوجه الذي ذكره أبو علي ما قال عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد ألفًا بعد ألف (٦).
(٢) انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(٣) في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٤: (مردَفين): فعل بهم اهـ. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٢٤١: ومن قرأها بفتح الدال وضعها في موضع (مفعولين) من أردفهم الله من بعد من قبلهم وقدامهم.
(٤) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٩٢ بإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف لا يحتج به كما في الكاشف ٢/ ٣٣٤.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٤.
(٦) أكثر المؤلف من ذكر رواية عطاء عن ابن عباس بل بنى عليها تفسيره هذا وكذلك، و"الوسيط"، و"الوجيز"، ولم أجد لها ذكرًا في كتب التفسير كـ"تفسر عبد الرزاق"، =

قال: والوجه الآخر في (مردفين) أن يكونوا جاءوا بعد المسلمين، قال الأخفش: تقول العرب: بنو فلان يردفوننا، أي: يجيئون بعدنا (١)، وقال أبو عبيدة: (مردفين) جاءوا بعد، وردفني وأردفني واحد (٢)، قال أبو علي: وهذا الوجه كأنه أبين لقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، فقوله (مردفين) جائين بعد لاستغاثتكم (٣) ربكم وإمداده إياكم، ومن فتح الدال
١ - أن هذه الرواية مفسرة لجميع آيات القرآن، وهذا غير معهود عن السلف، قال الخليلي: هذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ورواتها مجاهيل. "الإتقان" ٢/ ٢٤١.
٢ - أن الإِمام الشافعي رحمه الله قال: لم يثبت في التفسير عن ابن عباس إلا شبيه بمائة حديث.
انظر: المصدر السابق ص ٢٤٢، ولعل الشافعي لم تصح عنده رواية علي بن أبي طلحة الوالبي إذ هي في الأصل منقطعة، لكن عرفت الواسطة وهو ثقة. انظر: "التفسير والمفسرون" ١/ ٧٨.
٣ - أن هذه الرواية قد تخالف الرواية الصحيحة عن ابن عباس.
أقول: تبين لي فيما بعد أن هذه الرواية موضوعة، وقد تقدم ذلك عند الحديث عن مصادر المؤلف، في مقدمة التحقيق.
(١) "الحجة للقراء السبعة"٤/ ١٢٥، و"فتح الباري" ٨/ ٣٠٧، ولم أجده في "معاني القرآن".
(٢) قول أبي عبيدة هذا ذكره بنصه أبو علي الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٥، ونص قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤١ (مردفين) مجازه: مجاز فاعلين، من أردفوا، أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول: ردفني. أي جاء بعدي، وهما لغتان.
(٣) في (ح): (استغاثتكم).