آيات من القرآن الكريم

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ

وقوله تعالى: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يعدمه ويهلكه؛ لأن الباطل باطل، وكان الكفر باطلاً قبل بدر، ولكن معنى إبطاله ههنا: إعدامه، كما أن معنى إحقاق الحق: إظهاره، وإلى هذا [أشار ابن عباس في معنى (يبطل الباطل) فقال: يريد: ﴿وَيَقْطَعَ (١) دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ٧] ألا ترى أنه] (٢) أشار إلى إعدامهم وإهلاكهم (٣)، وقال صاحب النظم: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يفني الكفر، والآية بيان عن إرادة الله تعالى إظهار الحق وإعدام الباطل به على كره من المشركين، وإعزاز للمسلمين.
٩ - قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، يجوز أن يكون العامل في (إذ)، (ويبطل الباطل) فتكون الآية متصلة بما قبلها (٤)، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير: واذكر إذ، بمعنى التذكير بالنعمة (٥).
وقوله تعالى: ﴿تَسْتَغِيثُونَ﴾ أي تطلبون منه المغوثة (٦) [والغوث والإغاثة] (٧)، ويقول الواقع في بلية: أغثني، أي: فرج عني، ومعنى الإغاثة والغوث والمغوثة: سد الخلة في وقت الحاجة (٨)، وقال المفسرون (٩):

(١) في (س): (قطع).
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٣) لم أجد من روى عن ابن عباس ما ذكره الواحدي سوى الفيروز أبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٧، حيث قال: (ويبطل الباطل): يهلك الشرك وأهله.
(٤) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٩.
(٥) في (ج) و (س): التذكر.
(٦) في (م): (المعونة).
(٧) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٨) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (غوث) ٤/ ٤٠٠.
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٨٩، والثعلبي ٦/ ٤١ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٢.

صفحة رقم 41

﴿تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، وذلك أن المهاجرين والأنصار لما رأوا أنفسهم في قلة عدد استغاثوا، قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (١)، قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - ﷺ - إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف (٢) استقبل القبلة (٣) ومد يده يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، الله إن تهلك هذه العصابة من أهل (٤) الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ (٥).
وذكرنا معنى الإمداد في آخر سورة الأعراف وفي سورة آل عمران.
وقوله تعا لي: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وقرأ نافع (٦) بفتح الدال (٧)،

(١) من (م).
(٢) النيف: من واحد إلى ثلاث، وكل ما زاد على العقد فهو نيف.
انظر" "لسان العرب" ٨/ ٤٥٧٩ (نوف). ورواية المصنف هذه موافقة لرواية الإمام أحمد في "المسند"، وفي "صحيح مسلم": ثلاثمائة وتسعة عشر، وفي "سنن الترمذي": ثلاثمائة وبضعة عشر.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (م).
(٥) رواه بلفظ مقارب مع زيادة: مسلم في "صحيحه" (١٨٦٣) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ٣/ ١٣٨٣ (١٨٦٣)، والترمذي (٣٢٧٥) "كتاب تفسير القرآن"، سورة الأنفال، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٠.
(٦) هو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم المدني، أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته.
(٧) انظر: كتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني ص ١١٦، و"تقريب النشر في القراءات العشر" لابن الجزري ص ١١٨، وقد قرأ بالفتح أيضاً أبو جعفر ويعقوب، انظر: المصدر السابق، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" للدمياطي ص ٢٣٦.

صفحة رقم 42

قال الفراء: أما (مُرْدِفين) متتابعين، و (مُرْدَفين) فُعل بهم (١)، وقال الزجاج: يقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، ومعنى (٢) (مردفين) يأتون فرقة بعد فرقة (٣).
واختلف أهل اللغة في (ردف وأردف) والأكثرون على أنهما بمعنى. [قال] (٤) ثعلب عن ابن الأعرابي (٥): يقال: (ردفته وأردفته واحد) (٦). وقال أبو عبيد عن أبي زيد (٧): ردفت الرجل وأردفته: إذا ركبت خلفه، وأنشد:

إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا (٨) (٩)
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٤.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: فمعنى.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٢.
(٤) إضافة من المحقق.
(٥) هو: محمد بن زياد بن الأعرابي أبو عبد الله الكوفي الهاشمي مولاهم، تقدمت ترجمته.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف)، ونصه: ردفته وأردفته بمعنى واحد.
(٧) هو: سعدي بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، صاحب النحو واللغة، كان صدوقًا علامة حافظًا لنوادر والشعر، توفي سنة ٢١٤ هـ.
انظر: "مراتب النحويين" ص ٧٣، و"نزهة الألباء" ص ١٠١، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٠، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٤٩٤.
(٨) البيت لحزيمة بن نهد بن زيد بن ليث القضاعي، وهو شاعر جاهلي قديم. وحزيمة: بالحاء المهملة المفتوحة، وكسر الزاي، وانظر: " الأغاني" ١٣/ ٧٨، و"معجم ما استعجم" ١/ ١٩، و"المعارف" ص ٣٤٢. وقيل إن البيت لخزيمة -بالخاء المعجمة- ابن مالك بن زيد. انظر "اللسان" (ردف) ٣/ ١٦٢٥.
والمعنى: إذا الجوزاء تبعت الثريا، وذلك إبان اشتداد الحر وجفاف المياه، وتفرق الناس في طلبها، فحينئذٍ تغيب عنه محبوبته فتسيء ظنونه، وتشتد همومه.
(٩) انظر: قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).

صفحة رقم 43

ومعناه: جاءت على ردفها، أي: تبعتها ورؤيت (١) خلفها.
وفصل آخرون بينهما، فقال الزجاج: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل: إذا جئت بعده (٢).
وقال شَمِر: ردفت وأردفت: إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير (٣).
فمن قرأ (مردِفين) بكسر الدال (٤) فمعناه: أن بعضهم في إثر بعض، كالقوم الذين ترادفوا على الدواب؛ كما ذكره الفراء (٥) والزجاج (٦)، وهو قول قتادة والسدي: متتابعين (٧)، واختار أبو حاتم هذه القراءة، وقال: معناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم، يقال: ردفه وأردفه: إذا جاء بعده؛ كما قال: أردفت الثريا: أي جاء (٨) بعدها (٩). وروي عن أبي عمرو: أردف بعضهم بعضًا: من الإرداف، وهو أن يحمل الرجل صاحبه خلفه (١٠)، وأنكر أبو عبيد هذا وقال: لم يسمع هذا في صفة الملائكة (١١).

(١) في (س): (وردفت).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).
(٤) وهي قراءة السبعة غير نافع، انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٤، و"التيسير في القراءات السبع" ص ١١٦، و"تقريب النشر" ص ١١٨.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٧) رواه عنهما ابن جرير ٩/ ١٩١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٦٣.
(٨) هكذا في جميع النسخ.
(٩) انظر: قول أبي حاتم في "الوسيط" ٢/ ٤٤٦.
(١٠) انظر قول أبي عمرو في: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩١، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(١١) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٧٦.

صفحة رقم 44

ومن قرأ بفتح الدال فمعناه: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم وأمدهم بهم، وهو قول مجاهد، قال: الإرداف: إمداد المسلمين بهم (١)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (٢)، وروي عن الفراء وأبي عبيدة قالا: من فتح الدال أراد: جيء بهم بعدهم وأمدوا بهم، فهم ممدون بهم (٣)، وتفسير ابن عباس يدل على القراءتين لأنه قال: مع كل ملك ملك (٤)، وهذا يحتمل الوجهين؛ لأنك إن كسرت كان معناه: متتابعين، وإن فتحت كان المعني: أنهم جعلوا كذلك، قال أبو علي: من كسر الدال احتمل وجهين أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، كما تقولي: أردفت زيدًا دابتي، فيكون المفعول الثاني محذوفًا من الآية، وحذف المفعول كثير (٥).
ويقوي هذا الوجه الذي ذكره أبو علي ما قال عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد ألفًا بعد ألف (٦).

(١) في "تفسير الإمام مجاهد" ص ٣٥٢، و"تفسير ابن جرير" ١٣/ ٤١٣، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠، عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ قال: ممدّين اهـ. فلعل المصنف ذكر قول مجاهد بالمعنى.
(٢) انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(٣) في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٤: (مردَفين): فعل بهم اهـ. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٢٤١: ومن قرأها بفتح الدال وضعها في موضع (مفعولين) من أردفهم الله من بعد من قبلهم وقدامهم.
(٤) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٩٢ بإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف لا يحتج به كما في الكاشف ٢/ ٣٣٤.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٤.
(٦) أكثر المؤلف من ذكر رواية عطاء عن ابن عباس بل بنى عليها تفسيره هذا وكذلك، و"الوسيط"، و"الوجيز"، ولم أجد لها ذكرًا في كتب التفسير كـ"تفسر عبد الرزاق"، =

صفحة رقم 45

قال: والوجه الآخر في (مردفين) أن يكونوا جاءوا بعد المسلمين، قال الأخفش: تقول العرب: بنو فلان يردفوننا، أي: يجيئون بعدنا (١)، وقال أبو عبيدة: (مردفين) جاءوا بعد، وردفني وأردفني واحد (٢)، قال أبو علي: وهذا الوجه كأنه أبين لقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، فقوله (مردفين) جائين بعد لاستغاثتكم (٣) ربكم وإمداده إياكم، ومن فتح الدال

= و"ابن جرير"، و"ابن أبي حاتم"، و"الثعلبي"، و"البغوي"، و"الدر المنثور"، وغيرها. وقد يذكرها في أحيان قليلة الفخر الرازي وابن الجوزي، وهما يكثران النقل من "البسيط"، وفي القلب شيء من صحة هذه الرواية لما يأتي:
١ - أن هذه الرواية مفسرة لجميع آيات القرآن، وهذا غير معهود عن السلف، قال الخليلي: هذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ورواتها مجاهيل. "الإتقان" ٢/ ٢٤١.
٢ - أن الإِمام الشافعي رحمه الله قال: لم يثبت في التفسير عن ابن عباس إلا شبيه بمائة حديث.
انظر: المصدر السابق ص ٢٤٢، ولعل الشافعي لم تصح عنده رواية علي بن أبي طلحة الوالبي إذ هي في الأصل منقطعة، لكن عرفت الواسطة وهو ثقة. انظر: "التفسير والمفسرون" ١/ ٧٨.
٣ - أن هذه الرواية قد تخالف الرواية الصحيحة عن ابن عباس.
أقول: تبين لي فيما بعد أن هذه الرواية موضوعة، وقد تقدم ذلك عند الحديث عن مصادر المؤلف، في مقدمة التحقيق.
(١) "الحجة للقراء السبعة"٤/ ١٢٥، و"فتح الباري" ٨/ ٣٠٧، ولم أجده في "معاني القرآن".
(٢) قول أبي عبيدة هذا ذكره بنصه أبو علي الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٥، ونص قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤١ (مردفين) مجازه: مجاز فاعلين، من أردفوا، أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول: ردفني. أي جاء بعدي، وهما لغتان.
(٣) في (ح): (استغاثتكم).

صفحة رقم 46
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية