آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ

قال المالكية: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه، ولم يمض به عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن، كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.
وقد بيّن الله لرسوله الحقيقة فقال: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك، فأمكنك منهم، وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله، فيقبل ذلك منهم، ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم «١».
والمراد بالخير في قوله: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ يشمل خيري الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيخلفهم الله أفضل مما أخذ منهم، وأما في الآخرة فيعطيهم الثواب ويدخلهم الجنة. وذلك يشمل كل من أخلص من الأسارى.
أصناف المؤمنين في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٧٤

صفحة رقم 78

الإعراب:
فِي سَبِيلِ اللَّهِ متعلق ب جاهَدُوا، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجَرُوا وَجاهَدُوا إِلَّا تَفْعَلُوهُ الهاء: إما أن تعود على التوارث، وإما أن تعود على التناصر. وتَكُنْ: تامة بمعنى: تقع لا تفتقر إلى خبر. وفِتْنَةٌ: فاعل تكن. والمعنى:
إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين، وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرا، والفساد زائدا (الكشاف: ٢/ ٢٥).
المفردات اللغوية:
وَهاجَرُوا أي تركوا مكة التي كانت دار حرب وكفر، وذهبوا إلى المدينة دار الإسلام آوَوْا أنزلوا وأسكنوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وَنَصَرُوا هم الأنصار أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث وَلايَتِهِمْ أي توليتهم في الميراث، والولاية في الأصل: ملك الأمر والسلطة عليه والقيام به مِنْ شَيْءٍ أي فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة حَتَّى يُهاجِرُوا وهذا أي التوارث بالهجرة كان في مبدأ الأمر، ثم نسخ بآخر السورة وأصبح التوارث بقرابة الرحم مِيثاقٌ عهد، أي فلا تنصروا المسلمين على المعاهدين وتنقضوا عهدهم. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث، فلا إرث بينكم وبينهم.
إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي تولي المسلمين وقمع الكفار تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أي تحدث فتنة عظيمة بقوة الكفر وضعف الإسلام وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أيها المهاجرون والأنصار وَأُولُوا الْأَرْحامِ

صفحة رقم 79

ذو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الإرث من التوارث بسبب الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة فِي كِتابِ اللَّهِ اللوح المحفوظ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومنه حكمة الميراث وتدرجها من التوارث بالهجرة إلى التوارث بالرحم، إلى التوارث بشدة القرابة في سورة النساء.
سبب النزول:
نزول الآية (٧٣) :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج ابن جرير الطبري، وأبو الشيخ ابن حيان عن السّدّي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورّث أرحامنا المشركين؟ فنزلت:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ... الآية.
نزول الآية (٧٥) :
وَأُولُوا الْأَرْحامِ: أخرج ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل: ترثني وأرثك، فنزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ.
وأخرج ابن سعد عن عروة قال: آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: فلقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات، فانقلع عن الدنيا وأهلها، لورثته، فنزلت هذه الآية:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
فصارت المواريث بعد للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى قواعد الحرب والسلم مع الكفار، وحكم معاملة الأسرى، ختم السورة ببيان قرابة الإسلام ورابطته البديلة عن علاقة الكفر، وهي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة، في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض، ولكن بشرط المحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار مدة العهد.

صفحة رقم 80

التفسير والبيان:
جعلت الآيات أصناف المؤمنين في مواجهة الكفار أربعة أقسام:
١- المهاجرون الأولون قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
٢- الأنصار: أهل المدينة الذين آووا إخوانهم المهاجرين.
٣- المؤمنون الذين لم يهاجروا.
٤- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
أما المصنف الأول
فهم المذكورون في مطلع الآية الأولى وهم الذين آمنوا بالله ورسوله أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوها في مكة، وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. وهذا الصنف هو الأفضل والأكمل. وقد وصفهم الله بالإيمان، أي التصديق بكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم، فرارا بدينهم من فتنة المشركين، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونعتهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
أما الجهاد بالأموال: فهو إنفاقها في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله، كصرفها للكراع (الخيول) والسلاح، وعلى محاويج المسلمين. فضلا عن سخاء النفس بترك تلك الأموال في وطنهم: مكة.
وأما الجهاد بالنفس فهو قتال الأعداء والاستعلاء عليهم وعدم المبالاة بهم، وما كان قبل ذلك من احتمال المشاق، والصبر على الأذى والشدائد والاضطهاد المتواصل.
وتقديم الجهاد بالأموال على الأنفس لأنه أدفع للحاجة ويتوقف الجهاد بالنفس عليه.

صفحة رقم 81

والخلاصة: وصف المهاجرون الأولون بأربع صفات: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والهجرة، والجهاد، وأولية الإقدام على هذه الأفعال.
وأما الصنف الثاني
فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي آووا الرسول والمهاجرين إليهم، ونصروهم، فكانت المدينة عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة في أرجاء الأرض، وملجأ المهاجرين الذين عملوا مع الأنصار على نصرة دين الله والقتال معهم، وشارك هؤلاء أولئك في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، فكانوا في الفضل بعد الصنف الأول.
ثم وصف الله الصنفين بأن بعضهم أولياء بعض، أي يتولي بعضهم أمر الآخر كما يتولي أمر نفسه، ويكون كل منهم أحق بالآخر من كل أحد لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة، ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء إرثا مقدما على القرابة، حتى تقوّى المهاجرون بالتجارة وغيرها، فنسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس.
وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة»
لكن تفرد به أحمد.
فكان الإرث بين المهاجرين والأنصار بالإسلام والهجرة دون القرابة، فالمسلم في غير المدينة لا يرث المسلم الذي في المدينة وما حولها إلا إذا هاجر إليها، فيرث ممن بينه وبينه إخاء.
وهكذا فالولاية بين المهاجرين والأنصار عامة في الحرب والإرث وكل أوجه العلاقة بينهم وبين الكفار. وقال أبو بكر الأصم: الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالولاية: النصرة والمظاهرة.

صفحة رقم 82

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار، في غير ما آية في كتابه، لتضامنهم وتناصرهم، فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ [التوبة ٩/ ١٠٠] وقال تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة ٩/ ١١٧] وقال عز وجل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر ٥٩/ ٨- ٩] أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم.
وظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك، كما ذكر ابن كثير. ولهذا روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة قال: خيرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة».
وأما الصنف الثالث
وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد ذكرهم الله بقوله:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي أن الذين صدّقوا برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة، وظلوا مقيمين في أرض الشرك تحت سلطان المشركين أي في دار الحرب والشرك، لا يثبت لهم شيء من ولاية (نصرة) المؤمنين الذين في دار الإسلام. أما من أسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار. إن الولاية منقطعة بين أهل الدارين إلا في حالة واحدة ذكرها تعالى بقوله: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ... وهي مناصرتهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم، إلا إذا كان هؤلاء الكفار معاهدين، فيجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض

صفحة رقم 83

العهود. وهذا أصل من أصول أحكام الإسلام وسياسته الخارجية العادلة الرفيعة المستوى.
وحذر الله تعالى من نقض العهد بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الله مطلع على جميع أعمالكم، فالزموا حدوده، ولا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل بكم عقابه.
والخلاصة: ليست المقاطعة تامة، كما في حق الكفار، بين المؤمنين في دار الإسلام وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا، فلو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم.
ومن أجل دعم الولاية (التناصر والتعاون) بين المهاجرين والأنصار، ذكر الله تعالى حال الكفار في مواجهة المؤمنين، ليكونوا صفا واحدا تجاههم، وليعلموا قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكفار في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، يوالي بعضهم بعضا في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، وإن تعددت مللهم، وعادى بعضهم بعضا، وقد أكد التاريخ ذلك، فكان اليهود مناصرين المشركين في حربهم ضد المؤمنين، حتى إنهم نقضوا عهودهم مع المسلمين، مما استوجب حربهم وإجلاءهم من خيبر، والتاريخ يعيد نفسه، فترى المشركين والماديين الملحدين واليهود والنصارى في كل عصر في خندق معاد للإسلام والمسلمين.
وجعل الكفار في صف والمسلمين في صف آخر مواجه لهم اقتضى امتناع الإرث بسبب اختلاف الدين باتفاق المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافرا، ولا الكافر مسلما،
لما رواه الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما» ثم قرأ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ
وروى الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم».

صفحة رقم 84

أما توارث الكفار بعضهم من بعض فجائز في رأي الجمهور لأن الكفر ملة واحدة في الإرث لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وقال المالكية: لا يرث كافر كافرا إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك لعموم
الحديث السابق: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»
ولأنه لا موالاة بينهم.
وأما اختلاف الدار فهو مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل (دار الإسلام) فيكون هذا المانع خاصا بغير المسلمين.
وليس اختلاف الدار لدى الشافعية مانعا من موانع الإرث، لكنهم قالوا:
لا توارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن لانقطاع الموالاة بينهما.
وليس اختلاف الدار مطلقا مانعا للميراث لدى المالكية والحنابلة، فيرث أهل الحرب بعضهم من بعض، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.
ثم قال تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ... أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من موالاة المسلمين وتواصلهم وتناصرهم وتعاونهم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض، وتجنب موالاة المشركين وعدم الاختلاط بهم، تحصل فتنة عظيمة في الأرض هي ضعف الإيمان وقوة الكفر، وفساد كبير وهو سفك الدماء، فتعم الفتنة وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد زائد في الدين والدنيا.
وفي هذا دلالة على حرص الإسلام على الحفاظ على شخصية المسلمين الذاتية، واستقلالهم في ديارهم، وعدم إقامتهم في أوطان الكفار.
روى ابن جرير عن

صفحة رقم 85

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال:
«لا يتراءى ناراهما».
ثم أراد الله تعالى أن يبين فضل المهاجرين والأنصار على غيرهم، ويوضح مالهم في الآخرة، بعد أن ذكر حكمهم في الدنيا فهم متواصلون بينهم، وهذا ثناء عليهم، فلا تكرار، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...
أي إن الله تعالى يخبر عنهم بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك، مع حاجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى هجرته، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة التامة والصفح عن ذنوبهم إن كانت، وبالرزق الكريم في الجنة: وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، الدائم المستمر الذي لا ينقطع أبدا.
هؤلاء الأصناف الثلاثة هم السابقون المقربون كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ.
وأما الصنف الرابع
وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ... أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، وبعد أن قويت شوكة المسلمين، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا مع السابقين لهم، فأولئك منكم، أي أنهم كالمهاجرين الأولين والأنصار، في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء، فهؤلاء الأتباع لهم في الدنيا، على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح، النصرة، وهم مع المتقدمين في حسن الجزاء والعاقبة في الآخرة، فهم تبع لمن سبقهم، لذا قال تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية [الحشر ٥٩/ ١٠]
وفي الحديث المتفق عليه المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «المرء مع من أحب»
وفي الحديث الآخر الذي رواه الطبراني والضياء عن أبي قرصافة: «من أحب قوما فهو منهم»
وفي رواية «حشره الله في زمرتهم».

صفحة رقم 86

وفي جعل الصنف الرابع من جملة الأصناف الثلاثة السابقة بقوله فَأُولئِكَ مِنْكُمْ دليل على فضل السابقين على اللاحقين، كما أن في الآية قدرا مشتركا بين الصنف الأول والأخير وهو الهجرة والإيمان، مما يدل على الترغيب فيهما.
ثم ذكر الله تعالى ولاية الرحم والقرابة بعد ولاية الإيمان والهجرة، فقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ... أي أصحاب القرابة التي تربط بينهم رابطة الدم، والآية عامة تشمل جميع القرابات، سواء أكانوا من ذوي الفروض أم العصبات (القرابة من جهة الأب) أم الأرحام (القرابة من جهة الأم) في اصطلاح علماء الفرائض، هؤلاء بعضهم أولى ببعض أي أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأباعد بالتناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة، في كتاب الله، أي في حكم الله الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام.
فولاية الرحم أهم من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها السابق، والقريب المؤمن أولى بقريبه الرحم من المؤمن المهاجر والأنصاري البعيد القرابة، فتكون الآية مخصصة ما سبقها. أما القريب الكافر فيقطع الكفر صلته بقريبه.
وتكون الأخوة في النسب والدم، والأخوة في الله أولى في حكم الله من مجرد الأخوة الدينية.
ثم ختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله عليم بكل الأشياء، وعلمه واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدنيوية والأخروية، وبكل ما شرعه في هذه السورة من أحكام في السلم والحرب والغنائم والأسرى والعهود والمواثيق والولاية العامة والخاصة بين المؤمنين وصلة الأرحام، وهو إشارة إلى أن جميع أحكام السورة محكمة غير منسوخة ولا منقوضة وكلها حكمة وصواب وصلاح، وليس فيها شيء من العبث، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الأعراف ٧/ ٥٢].

صفحة رقم 87

لكن آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ نقل عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد: أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا. ويؤيدهم
حديث صحيح متواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
فالإرث الذي كان بسبب النصرة والهجرة صار منسوخا، فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة، وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه السهام المذكورة في آيات المواريث في سورة النساء. وهذا ما ذهب إليه الشافعية، فلا إرث لذوي الأرحام بالمعنى الضيق عند علماء الفرائض كالخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، وليس لهم نصيب، والعصبات أولى بعضهم ببعض لأن الفروض عينت. وقال الحنفية: يثبت الإرث لذوي الأرحام بنص هذه الآية، وذلك إذا لم يوجد أحد من العصبات.
وأما من نفي كون آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ ناسخة لما تقدمها، فإنه فسر المراد بالولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم، وتكون الآية الأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم المؤمنون حقا، والثالثة لبيان أن المتأخرين في الإيمان والهجرة لهم حكم من تقدمهم، وأن التناصر بالقرابة أيضا مطلوب.
ويكون المراد من آية أولي الأرحام أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة الوهم في أن الولاية محتملة للولاية بسبب الإرث، قال الرازي: وهذا أولى لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز «١».

(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٢١٣

صفحة رقم 88

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام، وبيان فضل المهاجرين السابقين على اللاحقين، وفضل المهاجرين على الأنصار، وجعل المتأخرين في الإيمان والهجرة بمنزلة المتقدمين في تضامنهم معهم.
٢- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام ومؤمني دار الحرب في حال مقاتلتهم أو اضطهاد الكفار لهم إلا إذا كان بيننا وبينهم ميثاق صلح وسلام، فلا تمكن مناصرتهم. وفيما عدا حالة المقاتلة لا تثبت ولاية النصرة بين المسلمين في دار الإسلام، والمسلمين في دار الحرب.
٣- تقديس الوفاء بالعهود والمواثيق في شرعة الإسلام، وإن مس ذلك مصلحة بعض المسلمين.
٤- الكفار بعضهم أولياء بعض أي نصراء وأعوان.
٥- إذا لم نحقق ولاية النصرة بيننا، ووالينا الكفار، أدى ذلك إلى ضعفنا، وقوتهم علينا.
٦- إن كل ما شرعه الله من أحكام صادر عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية.
٧- إرث ذوي الأرحام وهو من لا سهم له في القرآن من قرابة الميت، وليس بعصبة، وبه قال الحنفية والحنابلة محتجين بالآية «١»، فقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان: القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام.
وروى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من ترك كلّا

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٧٦

صفحة رقم 89

فإلي، ومن ترك مالا فلورثته، فأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه».
وقال المالكية والشافعية: لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، وترد التركة إلى بيت المال لأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئا، ولو كان لهم حق لبينه:
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم ١٩/ ٦٤]
وروى الترمذي وغيره من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه».
وأما آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ فهي آية مجملة جامعة، وآيات المواريث مفسّرة، والمفسّر قاض على المجمل ومبيّن.
وروى أبو داود في المراسيل أنه صلّى الله عليه وآله وسلم سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: «أخبرني جبريل أن لا شيء لهما».
والأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأنها صارت حينئذ بلد إسلام وجزءا من دار الإسلام.

صفحة رقم 90

بسم الله الرحمن الرّحيم

سورة التوبة
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية. نزلت في غزوة تبوك سنة تسع.
تسميتها:
قال الزمخشري: لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكّلة، المدمدمة، سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم «١». وتسمى أيضا البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين.
وعن حذيفة رضي الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه.
وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم، وتنال منهم، حتى خشينا ألا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
(١) الكشاف: ٢/ ٢٥

صفحة رقم 91

السبب في إسقاط التسمية من أولها:
قال ابن عباس: سألت عليا رضي الله عنه، لم لم يكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود، وليس فيها أمان «١».
وقال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين «٢».
قال القرطبي نقلا عن القشيري: والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها في هذه السورة. فلم يكتبها الصحابة في المصحف الإمام، مقتدين في ذلك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، كما قال الترمذي.
مناسبتها لما قبلها:
هناك شبه بين سورة براءة وسورة الأنفال قبلها، فهي كالمتممة لها في وضع أصول العلاقات الدولية الخارجية والداخلية، وأحكام السلم والحرب، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمنافقين، وأحكام المعاهدات والمواثيق، إلا أن في الأنفال بيان العهود والوفاء بها وتقديسها، وفي براءة نبذ العهود، وذكر في السورتين صدّ المشركين عن المسجد الحرام، والترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب وبيان أوضاع المنافقين.
وبالرغم من هذا الشبه الموضوعي في السورتين، وأنهما تدعيان القرينتين، وأنهما نزلتا في القتال، فإنهما في الأصح سورتان مستقلتان، فليست براءة جزءا

(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٢١٦
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ٦٢- ٦٣

صفحة رقم 92

من الأنفال، بدليل كثرة أسمائها المميزة لها، وفصلها عما سبقها، واستقر على ذلك ترتيب السور والآيات، وتناقل المسلمون هذا الفصل في المصحف من عهد الصحابة لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان.
قال عثمان رضي الله عنه: قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يبين لنا أنها منها. وفي قوله هذا دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه، وأن براءة وحدها ضمّت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ «١».
قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشّبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف (أي جمع) القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام «٢» ؟!
تاريخ نزولها:
كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بعد الهجرة، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي حدثت فيها غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلّى الله عليه وآله وسلم، خرج فيها لغزو الروم، وقت القيظ والحر الشديد، زمن العسرة، حين طابت الثمار، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين، وافتضاحا لنفاق المنافقين.
وقد نزل أولها بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليا ليقرأها على المشركين في موسم الحج.

(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٦٣
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ٨٨١

صفحة رقم 93

روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: براءة.
ما اشتملت عليه السورة:
افتتحت السورة بالبراءة من المشركين، ومنحهم مدة أمان أربعة أشهر، ثم إعلان الحرب عليهم بسبب جرائمهم، ثم منعهم من دخول المسجد الحرام إلى الأبد.
ثم مجاهدة أهل الكتاب حتى يؤدوا الجزية أو يسلموا. وتضمنت السورة في قسمها الأول حتى نهاية الآية [٤١] الحث على الجهاد والنفير العام في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم تحدثت عن أوصاف المنافقين ومخاطرهم في القسم الثاني إلى آخر السورة، وتخلل ذلك الإشارة إلى تخلف الأعراب عن الجهاد، وعدم قبول تخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عن المشاركة في الجهاد، وختمت السورة بمقارنات واضحة تميز بين المؤمنين والمنافقين، وجعل الجهاد فرض كفاية، وتخصيص فئة أخرى للتفقه في الدين.
فكان محور السورة يدور حول أمرين:
الأول- أحكام جهاد المشركين وأهل الكتاب.
الثاني- تمييز المؤمنين عن المنافقين بصدد غزوة تبوك.
أما أحكام الجهاد فقد مهد لها القرآن الكريم في هذه السورة بنبذ العهود والأمان بالنسبة للمشركين، وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بين المسلمين وأهل الكتاب لأن كلا من المشركين والكتابيين نقضوا العهود، وتواطأت طوائف اليهود من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع مع المشركين على محاربة المسلمين ومحاولة القضاء عليهم. وتحدثت حوالي عشرون آية عن أحقاد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم، وخبثهم وكيدهم، فلا عهد ولا أمان، ولا سلم ولا مصالحة بعد انتهاء أمد الأمان، ونقض العهود من غير المسلمين.

صفحة رقم 94

وأما الأمر الثاني فكان بسبب استنفار المسلمين لغزو الروم في غزوة تبوك، وقد أوضحت الآيات في القسم الأعظم من هذه السورة نفسيات المسلمين، وظهور عوارض التثاقل والتخلف والتثبيط، ومراوغة المنافقين، ودسائسهم الماكرة، واتخاذهم ما أطلق عليه (مسجد الضرار) الذي نزل بشأنه أربع آيات، وكرا للتآمر والتخريب، وتعريتهم بشكل فاضح، حتى سميت السورة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، ولم تدع لهم سترا إلا هتكته.
والخلاصة: كانت هذه السورة سورة الحسم الكامل لأوضاع غير المسلمين، وربما كانت أخطر سورة حشدت جيش الإيمان وأعدته للمعركة الفاصلة النهائية بين المسلمين وغيرهم، سواء في داخل الدولة بتصفية جذور النفاق، والقضاء على مكر اليهود، أو في خارج الدولة بالتصدي لغطرسة الروم في غزوة تبوك التي أرهبتهم، وجمّدت كل تحركاتهم المشبوهة للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وكان لهذه التصفية المقدّر والمخطط لها من قبل الله تعالى على الصعيد الداخلي والخارجي الأثر الأكبر في استقرار الدولة الإسلامية، والحفاظ على كيانها الدولي وإظهار هيبتها ومنعة وجودها، بعد انتقال مؤسسها وقائدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
أضواء من التاريخ على صلح الحديبية:
عقد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم معاهدة صلح الحديبية سنة ست من الهجرة مع المشركين على وضع الحرب أوزارها، وعلى السلم والأمان مدة عشر سنوات، بشروط متسامح فيها عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة. ثم نقضت قريش المعاهدة بإعانة حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسلاح والرجال، فاستغاث عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأغاثه قائلا:

صفحة رقم 95

«نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» فكان ذلك سبب عودة حالة الحرب مع قريش.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس بالتأهب للقتال، وسار لفتح مكة سرا، ففتحها في السنة الثامنة من الهجرة.
ولما بلغ هوازن فتح مكة، جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين، وكانت غزوة حنين التي شهدها دريد بن الصّمّة في شوال في السنة الثامنة، ثم حاصر النبي بعدها الطائف بضعا وعشرين ليلة، وقاتلهم قتالا شديدا، ورماهم بالنبل والمنجنيق.
ثم خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك، وهي آخر غزواته، وفيها نزلت أكثر آيات سورة براءة.
ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أراد الحج، ولكنه تذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم، ويطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب، ليكون مبلّغا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لكونه عصبة له. وقال له: «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».
فخرج علي راكبا العضباء ناقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة، وأمّ أبو بكر الناس في الحج، وقرأ عليّ على الناس صدر سورة براءة «١».

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣١ وما بعدها، الكشاف: ٢/ ٢٦، تفسير القرطبي: ٨/ ٦٤- ٦٨

صفحة رقم 96
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية