آيات من القرآن الكريم

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

(يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
ونقف هنا عند أمرين: أولهما - أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:
أولاهما - (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ) أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي - ﷺ - ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما - عندما ذكر الجدال في قوله تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها، وبدا لهم النفير، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها، لقوا جيشا يقاتلونه، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا، والصبر عند الصدمة، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لَا مناص منه.
وفى الحق كانت قوة الكفر مسيطرة، وما كان للمؤمنين قِبَلٌ بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته، فالخوف كان لَا بد منه، وليس الشجاع هو الذي لَا يخاف، إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها، ولكن يدبر للقائها، ويعمل على التغلب عليها، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت.

صفحة رقم 3069

وقد قال الله تعالى في تصوير خوفهم وتقديرهم للِّقاء (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال من يساق إلى الموت، وهو مشدوه ناظر إليه، متوقع له كأنه يراه رأي العين، وأنه نازل به لَا محالة. ولقد تجسم لديهم الخطر، كأنه نازل بهم لَا محالة، ولا منجاة منه، وإن رضوا بالفداء فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن ثَمَّة خطر، ولكن ثمة أيضا وعد الله تعالى بالنصر والتأييد وثمة الإيمان الثابت الذي تزلزلت معه الجبال ولا يتزلزل.
وإن الله تعالى يدعوهم في هذا إلى الصبر والاطمئنان إلى وعد الله تعالى وإن النبي - ﷺ - كان يبث فيهم روح الاطمئنان والأمن، ولكنه كان يريد أن يتثبت من اعتزامهم اللقاء وطلبهم للنصر، وطاعتهم له.
ويروى الحافظ ابن كثير وأصحاب السِّير الصحاح أنه لما بلغ النبي - ﷺ - خبر فرار العير إلى سيف البحر، ومجيء جيش المشركين وكان النزال لابد منه أراد - ﷺ - أن يتثبت من جيشه فاستشار من معه وأخبرهم عن قريش.
فقال أبو بكر، فأحسن القول، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: امض يا رسول الله لما أمرك الله به فنحن معك، والله لَا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله - ﷺ - خيرًا، ودعا له بخير.
ثم قال رسول الله - ﷺ -: " أشيروا عليَّ أيها الناس "، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله يتخوف من ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى

صفحة رقم 3070

عدوهم من بلادهم، فلما قال رسول الله - ﷺ - ذلك. قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال: " أجل ". قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله كما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى بك عدونا غدا، إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله تعالى، فَسُرَّ رسول الله - ﷺ - بقول سعد ونشطه، وقال: " سيروا على بركة الله " (١).
انظر إلى حكمة القائد المحنك لَا سير إلا بعد أن يعرف أن إرادة جيشه قد اجتمعت على الحرب.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
لقد أراد الله تعالى أن يعز الإسلام، ويضع الحواجز المانعة من أن يستمر الشرك في غيه، لقد طاوَلهُ النبي - ﷺ -، وصابَرَهُ في مكة، وتحمل أذاه حتى كون الله للإسلام شوكة في المدينة دار الإيواء والنصرة، فكان لَا بد من بعد ذلك من وضع حد للطغيان، ووقف للفتنة فكان لابد من القتال. كانت عير لمكّة تذهب إلى الشام وتمر على المدينة أو على مقربة من المدينة وكانت فيها أموال كثيرة لقريش، فاراد النبي - ﷺ - أن يأخذها المسلمون بدل الأموال التي أخرجوا منها، ولأنه لَا سلم بينهم، ولأنهم أباحوا دماء المسلمين في مكة وأموالهم، فكان حقا أن تباح دماؤهم وأموالهم، خرج نحو ثلاثمائة لمصادرة العير، فانفلت بها المشركون وعلى رأسها أبو سفيان، ولكنه كان قد أرسل إلى مكة يستنفرها لتحمي عيرها، فنفرت بجيش كبير اتجه إلى بدر، ومع أن العير قد نجت فقد أصر الحمقى من المشركين على غزو المدينة، ونسوا المآل والرحم فكان اللقاء أمرا لابد منه.
________
(١) البداية والنهاية: ج ٤، ص ٦٠، وتاريخ الطبري): ج ١، ص ٩٥٤، وقصص الأنبياء: ج ١، ص ٣٦٠.

صفحة رقم 3071

ولقد كان بعض المؤمنين، وخصوصا الذين أخذت أموالهم يودون العير، ولم يريدوا القتال لأنها غنيمة أتت إليهم، وأنفلهم الله إياها، ولأن القتال كره لهم، والنفس المؤمنة رقيقة تكره الدماء، وكما قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُو كرْهٌ لَّكمْ)، وإن كان خيرا في مثل حال المشركين معهم ولذلك كانوا يودون العير، لَا الحرب، وتلك هي الفطرة، وقال تعالى:

صفحة رقم 3072
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية