آيات من القرآن الكريم

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ

عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال هذا باب من السماء قد فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. وقدمنا أول هذه السورة من الأحاديث ما يؤكد فضلها ويؤيد نفعها، فلا بدع إن شفى الله ببركتها المصروع وغيره، وقد ختم الله هذه السورة الجليلة بمعنى ما بدأه بها من صفات المؤمنين الفاضلة، وجل صنوف الأحكام والشرائع والمواعظ والحكم في تضاعيفها حسبما قضته حكمته البالغة من سنن وقواعد تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات، وبين فيها ما يجعل النفس البشر قادرة على التصرف في كثير من مخلوقاته لتستفيد من القوى التي وهبها لها ومما سخر لها من الحيوان والمعادن لتتمكن من أداء مهمتها في الأرض وإعمارها. هذا ويوجد سورة المؤمن المارة في ج ٢ مختومة بما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الأنفال عدد ٢ و ٩٨ و ٨
نزلت بالمدينة بعد سورة البقرة عدا الآيات من ٣٠ إلى ٣٦ فإنها نزلت بمكة.
وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفا.
لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به هذه السورة في القرآن العظيم، ويوجد سورتان مختومة بما ختمت به النساء والنور، ومثلها في عدد الآي سورة الزمر فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى يا سيد الرسل إن قومك
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» هي غنائم الحرب «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» لا يحكم بتقسيمها أو تخصيصها أحد غيرهما «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها المؤمنون، ولا تختلفوا فيها أو تتخاصموا من أجلها، بل اتركوها لمن وهبها لكم وفوضوا الأمر فيها لله

صفحة رقم 270

والرسول «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» واتركوا الشقاق وكونوا متآخين مجتمعين على كلمة الحق بينكم أنفسكم وبينكم وبين ربكم ولا تستبدوا بشيء أبدا حتى يقضى لكم فيه «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١» بهما إيمانا صحيحا كاملا في القول والفعل والنية.
مطلب في الأنفال وكون الإيمان يزيد وينقص وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان:
واعلم أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:
قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأعجبني، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت إن الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض (أي مجمع الغنائم المسماة بالأنفال جمع نفل) فطرحته وفي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وانه قد صار لي فاذهب فخذه- أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرجه مسلم في حديث طويل قال: فأخذته وذهب ما كان يحوك في صدري، وعلمت أن حضرة الرسول لم يمنعه مني لأمر آخر، وإنما أراد قضاء الله في ذلك وغيره. ومن الطاعة أن لا يقول الرجل لولي أمره في شيء فعله لم فعلته، ولا في شيء لم يفعله لم لا تفعله أبدا. وليعلم بأنه أعم بما يفعل وبما لا يفعل، وما تؤول إليه العاقبة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا، فأما الشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت الشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا رداءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت.
واخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وغيرهم عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، فساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول

صفحة رقم 271

الله. وهذا أولى بأن يكون سببا للنزول، لأنه لو لم يكن اختلاف وتخاصم في النفل لما وقع السؤال عنه، ولما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إذ لا حاجة إلى التحذير والأمر بالصلح بعد الجواب. وقد جاءت روايات متعددة بشأن السيف المذكور على خلاف ما جاء في حديث سعد، ولذلك قالوا إنه أي الحديث الذي رواه سعد المار ذكره مضطرب، لأن البخاري أخرج في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنقلان، فوجدا سيفا ملقى، فخرا عليه جميعا، فقال سعد هو لي، وقال الأنصاري هو لي، لا أسلمه حتى آتي رسول الله، فأتياه فقصّا عليه القصة، فقال عليه الصلاة والسلام ليس لك يا سعد، ولا للأنصاري، ولكنه لي، فنزلت. وأخرج عبد ابن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم عن سعد أنه قال أصاب رسول الله غنيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله فقلت نفلني هذا السيف، فأنا من علمت، فقال ردّه من حيث أخذته، فرجعت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لا متني نفسي، فرجعت إليه فقلت أعطنيه، فشد لي صوته وقال ردّه من حيث أخذته، فأنزل الله هذه الآية.
فالاختلاف في هذه الروايات ينفي الاعتماد على ذلك، وسياق الآية يوافق رواية ابن عباس والعمدة عليها لا على ما رواه سعد والحادثة وقعت بعد الرجوع من بدر ويؤكدها جمع الغنائم وجعلها في القبض ثم تقسيمها بمعرفة الرسول على المسلمين، ويدل عليها حديث عبادة بن الصامت المار ذكره. والنفل هو ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، كان يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول لسرية ما أصبتم فهو لكم أو نصفه أو ربعه، وهذا لا يخمس، إذ يلزم الإمام الوفاء بوعده وهو مما يزيد في عزم المجاهد وحزمه وتقدمه لكل سرية، لأنه إذا علم أن ما يصيبه يكون له يزداد رغبة في لقاء الأعداء وهمة ونشاطا في خوض الحرب زيادة على رغبته في إعلاء كلمة الله وطاعة رسوله والشهادة في الآخرة. واعلم أن استباحة الغنائم من خصائص هذه الأمة، لأنها كانت حراما على من قبلها فتكون شريعة هذه الأمة ناسخة لشرائع من قبلها من الأنبياء ومخصصة لآية الخمس الآتية، وهي محكمة غير منسوخة بها كما قال عبد الرحمن

صفحة رقم 272

ابن زيد قول لابن عباس، وعلى هذا فإن معناها أن الغنائم لله ورسوله يضعها حيث يشاء، وقد بين الله تعالى مصارف الغنائم في آية الخمس بدليل ما صح من حديث بن عمر: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا وفضّلنا بعيرا. - أخرجاه في الصحيحين- وعليه فإن للإمام أن ينفل ما شاء بما يشاء ولمن شاء قبل التخميس، وإن حادثة بدر هذه أول حادثة وقعت بين حضرة الرسول نفسه وأصحابه وبين مشركي العرب من أهل مكة، وهي أول حرب شهدها حضرة الرسول. قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» خافت وضعفت هيبة لجلال ربهم واستعظاما لعزة سلطانه «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» ويقينا وطمأنينة تفيد هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص وهو ما اعتمدته قبلا وذكرت أن الخلاف فيه بين الأشاعرة والماتريدية لفظي، لأن الإيمان من حيث هو إيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن حيث الأعمال فلا شك أنه يقبل الزيادة ويتعرض للنقصان، لأن ذا الأعمال الصالحة أكمل إيمانا من غيره، فإذا كان الإيمان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان واعتقادا بالجنان فمن هذه الحيثية لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان مع ذلك عملا بالأركان وفعلا بالجوارح فإنه يزيد وينقص حتما، وإذا قبل الزيادة فإنه يقبل النقص، فلا وجه لقول من يقول إنه يقبل الزيادة فقط. ولهذا أجاز الشافعي للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأوجب أبو حنيفة أن يقول: أنا مؤمن حقا وأن من وصل الاستثناء في هذه الجملة فهو مشرك في إيمانه، وقدمنا في الآية ٥ من سورة البقرة المارة ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة، وله صلة في الآية ١٢٥ من سورة التوبة الآتية فراجعها. ثم زاد في وصف أولئك المؤمنين فقال «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (٢) في أمورهم فلا يخشون ولا يرهبون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه. هذا، ولما كان الخوف والرجاء والخضوع والخشية عند ذكر الله تعالى وزيادة الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن والتوكل على الله والتفويض إليه عند العزم على الأعمال والأفعال، وهذه كلها من أعمال القلوب، وهي من كنوز البر التي عدها الإمام الشافعي رحمه الله في قوله:

صفحة رقم 273

يا من تعزز بالدنيا وزينتها والدهر يأتي على المبنيّ والباني
ومن يكن عزّه الدنيا وزينتها فعزّه عن قليل زائل فاني
واعلم بأن كنوز الأرض من ذهب فاجعل كنوزك من برّ وإحسان
ثم أتبعها بما هو من أعمال الجوارح فقال جل قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بأوقاتها مكملين شروطها وأركانها «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) » في وجوه البر والقربات «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الخمس الحسيّة والمعنوية «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» وصدقا الكاملو الإيمان قولا فعلا «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في جنته العالية على حسب كمال إيمانهم وصلاح أعمالهم «وَمَغْفِرَةٌ» لذنوبهم بأن يبقيها مستورة في الدنيا فيما بينه وبينهم ولا يفضحهم عليها بالآخرة كرما منه، ولا يؤاخذهم بها «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) » لهم في مقعد صدق لا يكدره كد الكسب وهم المعيشة، ولا يشوبه خوف الحساب، ولا يعتريه توهم الفقر، ولا يتطرق إليه مظنة النفاد، الملازمات لرزق الدنيا. وان ما ذكر هو للمؤمنين بالآخرة حق لا مرية فيه «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» من المدينة إلى بدر إخراجا «بِالْحَقِّ» الوحي إليك من لدنه. وهذه الآية هي المشيرة إلى غزوة بدر التي وعد الله بها رسوله النصر، وهي مرتبطة بالآية الأولى من هذه السورة، وما بينهما من الآيات معترضات فهي من باب المقدم والمؤخر «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بك وبربك وكتابك من أصحابك «لَكارِهُونَ (٥) » خروجهم معك لقتال أعدائك الكافرين بسبب قلة عددهم وعددهم، ولم يعلموا أن الذي أخرجك من بيتك ما أخرجك إلا ليجعل النصر حليفك والظفر قرينك «يُجادِلُونَكَ» كراهية القتال، لأنهم لم يتمرنوا عليه، ويتصورون بأنفسهم أنك لم تدرب على القتال أيضا، لأنهم لم يعهدوك قاتلت قبل، وإن جدالهم لك «فِي الْحَقِّ» الذي أمرناك به «بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» لهم أنك لا تعمل شيئا من نفسك لا يليق بهم بعد ما رأوا من صدقك وعدم استدراك شيء من عندك، وتراهم وهم سائرون معك «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) » الموت بأعينهم، شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يقدم للقتل وهو ينظر إلى دواعيه ويعلم أنه ميت، ولا أبلغ من هذا

صفحة رقم 274

التشبيه أبدا «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك نتيجة ما هم كارهون الذهاب إليه مقدما، ليطمئنوا ويسكن فزعهم، وقل لهم «إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» في غزوتكم هذه التي أنتم كارهون الذهاب إليها «إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» طائفة أبي سفيان مع العير أو طائفة أبي جهل مع النفير «أَنَّها لَكُمْ» وان الله يعلمه أيهما تختارون «وَتَوَدُّونَ» أيها المؤمنون المتقاعون عن الذهاب مع رسولكم «أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ» أي طائفة أبي سفيان والعير «تَكُونُ لَكُمْ» إذ لا سلاح فيها ولا قتال، لأنكم تجنحون إلى سفساف الأمور طلبا للفائدة العاجلة «وَيُرِيدُ اللَّهُ» لكم طائفة أبي جهل والنفير لتقاتلوهم وتكسروا شوكنهم، لأن الله يختار لكم معالي الأمور من النصر وعلو الكلمة ليعلي شأنكم «أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» التي سبقت بوعد النصر إلى رسوله والظفر بأعدائه «وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (٧) ويهلكهم فلا يبقي لهم شأنا، ويريد أيضا «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» فيمحقه ويدحضه فيمحو الكفر ويظهر الإسلام ويثبته «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) » ذلك وهو كائن لا محالة رغم أنوفهم. قال ابن عباس وغيره في سبب نزول هذه الآيات: إن أبا سفيان أقبل من الشام في أربعين راكبا من قريش ومعهم تجارة كبيرة، وقد أخبر الله بهم نبيه صلّى الله عليه وسلم، فانتدب لهم أصحابه، فخف بعضهم وثقل بعضهم لظنهم أنه لم يلق حربا بعد، ولم يعلموا أن الله تعالى علمه كل شيء، كما ظهر لهم بعد، فسمع أبو سفيان بمقدم الرسول وأصحابه، فأرسل قمقما بن غراز الغفاري ليستفز أهل مكة ويخبرهم الخبر، فرأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا قصتها على أخيها العباس وهي أنها رأت راكبا وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا غدر إلى مصارعكم في ثلاث، وان الناس اجتمعت اليه ودخلوا المسجد ثم صرخ ذلك الصارخ من أعلى الكعبة وعلى رأس أبي قبيس بما صرخ به أولا، وأرسل صخرة أرفضت بأسفل الجبل لم يبق بيت إلا دخله فلقة منها، فقال اكتمها انها لفضيلة، وذكرها للوليد بن عتبة، واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه وفشت في قريش، وكل سرّ جاوز الاثنين شاع، أي خرج من الشفتين، إذ في كتمانه بقاؤه في القلب، وقيل جاوز الرجلين وليس بشيء لأنه إذا جاوز

صفحة رقم 275

صاحبه فشا فكيف بغيره، راجع الآية ٧ من سورة الروم ج ٢، قالوا ثم بينما العباس يطوف بالبيت استدعاه أبو جهل بن
هشام فقال له يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، سنتربص هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة في رؤياها، فإن كانت حقا فيكون، وإلا سنكتب كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب، ولما لم يرد عليه العباس جاءه نساء بن المطلب وقلن له أقررت لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء، ولم يكن عندك غيره، فذهب في اليوم الثالث وأقسم ليتعرضنّه، ودخل المسجد وأراد أن يمر عليه، فإذا هو يسمع صوت قمقم يصيح يا معشر قريش اللطيمة تعرض محمد لأموالكم، ولا أرى أنكم تدر كونها الغوث الغوث، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه، وهذه من شأن المستغيث المستهلك علامة عندهم على صدق أخباره، قال فشغل عني وتجهز أشراف قريش إلا أبا لهب أرسل عنه العاص بن هشام بن المغيرة، وقد اجتمعت للسير، ثم ذكرت بعضها ما بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحروب، وخافت أن تخلفهم على أموالهم ونسائهم، فتصوّر لهم الشيطان بصورة سراقة بن مالك بن خشعم من أشراف بني بكر، وقال لهم إني جار لكم من كنانة كما سيقصه الله بعد في الآية ٤٧ من هذه السورة، وخرجوا مسرعين، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأصحابه لليال مضت من رمضان، وأتاه الخبر بمسير قريش، فأرسل العيون ثم نزل عليه جبريل في هذه الآية وما بعدها، فاستشار أصحابه إلى أيهما يمضي أللعير أم للنفير، فقال أبو بكر وعمرو المقداد، امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغمار (مدينة بالحبشة) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه. فدعا لهم بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس، فقال سعد بن معاذ كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل (وذلك أنه لم ير على الأنصار وجوب نصرته خارج بلادهم ولم يعاهدهم أو يعاهدونه على ذلك، فأحب أن يختبرهم، لأن مبايعته لهم كانت مختصرة على ما يقع عليه في ديارهم)، قال امض لما أمرت به يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد، وإنا

صفحة رقم 276

لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فسرّ بذلك وساروا على بركه الله. روى مسلم عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله لهم. قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا، فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا راجع الآية ٢٢ من سورة فاطر في ج ١ والآية ٤٦ من سورة المؤمن في ج ٢ تجد ما يتعلق في هذا البحث. قال تعالى «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» في قتال بدر. وقد خاطبه الله تعالى بلفظ الجمع تعظيما لحضرته. روى مسلم عن ابن عباس، قال حدثني عمر بن الخطاب قال:
لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأتاه أبو بكر فأخذ بردائه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك إن شاء، فأنزل عليه «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) » غيرهم وراءهم مثلهم أو أكثر، لأن الردف أغلبه واحد، وقد يكون اثنين عند البشر، أما الملائكة فلا تحديد لردفهم. واعلموا أيها المؤمنون أن هذا الإمداد ما كان «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» لكم بالنصر والظفر «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» هيئه وأرسله إليكم «وَمَا النَّصْرُ» في الحقيقة لكم «إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لا من الملائكة ولا من غيرهم وإنه لو لم يرسلهم لنصركم بأمر من عنده

صفحة رقم 277
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية