
وفي قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أربعة أقوال «١» : أحدها: فألقِ إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنّقض سواء، وهذا قول الأكثرين، واختاره الفراء، وابن قتيبة، وأبو عبيدة. والثاني:
فانبذ إليهم جهراً غير سرٍّ، ذكره الفراء أيضاً في آخرين. والثالث: فانبذ إليهم على مهل، قاله الوليد بن مُسلم. والرابع: فانبذ إليهم على عدل من غير حيف، وأنشدوا:
فاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعدَاءِ | حتَّى يُجيبُوك إلى السَّواءِ «٢» |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «ولا تحسِبن» بالتاء وكسر السين إلا أن عاصماً فتح السين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: بالياء وفتح السين. وفي الكافرين ها هنا قولان: أحدهما: جميع الكفار، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين انهزموا يوم بدر، ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره.
و «سبقوا» بمعنى فاتوا. قال ابن الأنباري: وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات فلما سلموا منها، قيل: لا تحسبنّ أنهم فاتونا بسلامتهم الآن، فانهم لا يعجزونا، أي: لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ قرأ الجمهور: بكسر الألف. وقرأ ابن عامر: بفتحها وعلى قراءته اعتراض. لقائل أن يقول: إذا كان قد قرأ «يحسبن» بالياء، وقرأ «أنهم» بالفتح، فقد أقرَّهم على أنهم لا يُعجزون ومتى علموا أنهم لا يعجزون، لم يلاموا. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال:
المعنى: «لا يحسبن الذين كفروا سبقوا» لا يَحسِبُنَّ أنهم يعجزون و «لا» زائدة مؤكدة. وقال أبو علي:
المعنى: لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سبقوا وآباءَهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون، فهم يُجزَون على كفرهم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
ويؤذنهم بالحرب.
(٢) البيت غير منسوب في «الطبري» ٦/ ٢٧٢. والغدر، جمع غدور. وهو القادر المستمرئ للغدر.

قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ في المراد بالقوة أربعة اقوال «١» :
(٦٥٥) أحدها: أنها الرمي، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحكم بن أبان: هي النبل. والثاني: ذكور الخيل، قاله عكرمة. والثالث: السلاح، قاله السدي، وابن قتيبة. والرابع: أنه كل ما يُتقوَّى به على حرب العدو من آلة الجهاد.
قوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يعني ربطها واقتناءها للغزو وهو عام في الذكور والإناث في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول: المراد بقوله تعالى: «ومن رباط الخيل» إناثها.
قوله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ روى رويس، وعبد الوارث «تُرَهِّبُون» بفتح الراء وتشديد الهاء، أي: تخيفون وترعبون به عدو الله وعدوكم، وهم مشركو مكة وكفار العرب.
قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي: من دون كفار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنهم الجن. روي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
(٦٥٦) «هم الجنّ، فإنّ الشيطان لا يخبِّل أحداً في داره فرس عتيق».
ضعيف جدا. أخرجه الطبراني ١٧/ ١٨٩ وابن عدي في الكامل ٣/ ٣٦٠ كلاهما عن عبد الله بن عريب المليكي عن أبيه مرفوعا بلفظ «هم الجن»، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق». وإسناده ضعيف جدا، لأجل سعيد بن سنان، وبه أعله ابن عدي، وقال الهيثمي في «المجمع» ٢/ ٢٧ ح ١١٠٣٠: رواه الطبراني، وفيه مجاهيل اه. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٤٠١: حديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه. اه.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٢٧٦: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل، ولا وجه أن يقال: عني بالقوة معنى دون معنى من معاني القوة وقد عمّ الله الأمر بها. فإن قال قائل: فإن رسول الله ﷺ قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله «ألا إن القوة الرمي» قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس من الخبر ما يدل على أن مراده بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر «ألا إن القوة الرمي» ولم يقل «دون» غيرها. ومن القوة أيضا السيف والرمح والحربة. وكل ما كان معونة على قتال المشركين. كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٢٧٧: فإن قول من قال: عني به الجن، أقرب وأشبه بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كل عدو لله وللمؤمنين يعلمونهم. ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعدواة قريظة وفارس لهم، لعلمهم بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال وهم يعلمونهم لهم أعداء وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ولكن معنى ذلك إن شاء الله ترهبون بارتباطكم. أيها المؤمنون، الخيل عدو الله وأعداءكم من بني آدم والذين قد علمتم عداوتهم لكم، لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، والله يعلمهم دونكم، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل إن صهيل الخيل يرهب الجن، وأن الجن لا تقرب دارا فيها فرس.