آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

مِنَ الشُّطَّارِ اتَّخَذُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى اسْتِجْدَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِمَظَاهِرِهِمُ الْخَادِعَةِ وَتَلْبِيسَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، صِنَاعَةً يُرَوِّجُونَهَا بِالْغُلُوِّ فِي إِطْرَائِهِمْ.
وَمَثَلُ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ لَهُمْ مَا وَقَعَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَيَّامَ كَانَ مَنْفِيًّا فِي بَيْرُوتَ: قَالَ لِي: جَاءَنِي فُلَانٌ مِنْ أَصْدِقَائِي الْمِصْرِيِّينَ الْمَنْفِيِّينَ يَوْمًا وَقَالَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَالِدُهُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعِنَايَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فِي تَجْهِيزِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَكُنْتُ قَبَضْتُ رَاتِبِي الشَّهْرِيَّ مِنَ الْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَمْ أُعْطِ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّجَّارِ الَّذِينَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ مُؤْنَةَ الدَّارِ فَنَقَدْتُهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ لِعِلْمِي بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ كُلِّهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي وَأَمْرَ أُسْرَتِي إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَمُرَّ ذَلِكَ النَّهَارُ إِلَّا وَقَدْ جَاءَنِي حَوَالَةٌ بَرْقِيَّةٌ بِمَبْلَغٍ أَكْبَرَ مِنْ رَاتِبِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ دَيْنًا
لِي قَدِيمًا عَلَى رَجُلٍ أَعْيَانِي أَمْرُ تَقَاضِيهِ مِنْهُ، وَأَنَا فِيهَا مُمَتَّعٌ بِمَا تَعْلَمُ مِنَ النُّفُوذِ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَفَرِي مِرَارًا أَتَقَاضَاهُ مِنْهُ مُسْتَشْفِعًا بِعُذْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَئِسْتُ مِنْهُ، فَهَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِتَحْوِيلٍ بَرْقِيٍّ إِلَّا تَسْخِيرًا مِنْهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ؟
(أَقُولُ) : إِنَّنِي أَرَانِي غَيْرَ خَارِجٍ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ عَنْ مَنْهَجِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ بِهِ التَّفَقُّهُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَا أَرَى النَّاسَ يَزْدَادُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الدِّينِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَتَقِلُّ فِيهِمُ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ.
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ

صفحة رقم 30

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ الْأَخِيرَةِ: وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَمَعْنَاهُ: وَلَوْ رَأَيْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مِنْ سَمِعَهِ أَوْ يَتْلُوهُ - إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَتْلَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ (وَمَعْلُومٌ أَنْ " لَوْ " الِامْتِنَاعِيَّةَ تَرُدُّ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا) مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أَيْ: ظُهُورَهُمْ وَأَقْفِيَتَهُمْ بِجُمْلَتِهَا - وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ الَّذِينَ
يَحْضُرُونَ وَفَاتَهُمْ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ عِنْدَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ - لَوْ رَأَيْتَ ذَلِكَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يَرُدُّ الْكَافِرَ عَنْ كُفْرِهِ، وَالظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، إِذَا هُوَ عَلِمَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ عَذَابُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ أَنَّ ضَرْبَ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ كَانَ بِبَدْرٍ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَضْرِبُونَ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَالْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ أَدْبَارَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُثَبِّتَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشَّوْكِ. فَقَالَ: " ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ " وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ كَالرِّيحِ أَيْ لَا يُقْبَضُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ.
وَيُؤَيَّدُ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ بِأَنَّ هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ بَقِيَّةُ قَوْلِهِمْ لَهُمْ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي ذُقْتُمْ وَتَذُوقُونَ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَدَّمْتُمُوهُ إِلَى الْآخِرَةِ مَنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَرْجُلِ أَوِ الْحَوَاسِّ أَوْ تَدْبِيرِ الْعَقْلِ - كُلُّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إِلَى عَمَلِ الْأَيْدِي تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ تُزَاوَلُ بِهَا. وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ: وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَذَابُ ظُلْمًا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ، وَلَكِنْ سَبَبُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ثَابِتٌ قَطْعًا، كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ لِعَبِيدِهِ مُنْتَفٍ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمْ قَطْعًا، فَلُومُوهَا فَلَا لَوْمَ لَكُمْ إِلَّا عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي يَرْوِيهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ رَبِّهِ " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا " إِلَخْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَتَنَزُّهِهِ عَنْ سَائِرِ النَّقَائِصِ،
وَمَا يُنَافِي كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، لَا لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ مِنْهُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى - كَمَا قَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ - وَهُوَ خَطَأٌ فِي تَعْرِيفِ الظُّلْمِ، وَخَطَأٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

صفحة رقم 31

هَذَا التَّعْبِيرُ بِعَيْنِهِ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِلَى لِلْعَبِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ١٨١ و١٨٢) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُ فِي (ص ٢١٧ و٢١٨ ج ٤ طَ الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ بَيَانُ نُكْتَةِ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُرَاجَعُ فِي بَيَانِ هَذَا أَيْضًا تَفْسِيرُ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠) فِي (ص٨٥ - ٩١ ج ٥ طَ الْهَيْئَةِ).
وَنُكْتَةُ هَذَا التَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْإِلَهِيَّةَ تُقَامُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِحَالِ أُنَاسٍ أَوْ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَرَدَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، كَمَا آذَوُا النَّبِيِّينَ قَبْلَهُ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ بُخْلِهِمْ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (٣: ١٨١) وَيَتَّضِحُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: دَأْبِ هَؤُلَاءِ وَشَأْنِهِمِ الثَّابِتِ لَهُمْ - وَالدَّأْبُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ، وَسَائِرِ الْمُلُوكِ الْعُتَاةِ، وَأَقْوَامِ الرُّسُلِ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الْعُدَدِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَكَمَا كَانَ دَأْبُهُمْ وَاحِدًا كَانَتْ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمْ وَاحِدَةً، فَنَصْرُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عِقَابَهُ، وَلَكِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا. قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (٣: ١١) وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا التَّكْرَارِ بَيَانُ أَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فَاطَّرَدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَبَأْسِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَقْدِ ذَلِكَ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ أَخْذِهِ تَعَالَى لِقُرَيْشٍ بِكُفْرِهَا لِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهَا، الَّتِي أَتَمَّهَا بِبَعْثِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ مِنْهُمْ، كَأَخْذِهِ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، مُؤَيِّدٌ بِأَمْرٍ آخَرَ يَتِمُّ بِهِ عَدْلُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعْمَةً مَا أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُحِيطٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ.

صفحة رقم 32

(فَصْلٌ فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ)
هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مَنْ أَعْظَمِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، يُعْلَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَا يَزَالُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ يُخْدَعُونَ بِهَا، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَوْطِ سَعَادَةِ الْأُمَمِ وَقُوَّتِهَا وَغَلَبِهَا وَسُلْطَانِهَا بِسَعَةِ الثَّرْوَةِ، وَكَثْرَةِ حَصَى الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ:

وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
وَكَانَ مِنْ غُرُورِهِمْ بِهَا أَنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ أُوتِيهَا لَا تُسْلَبُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ كَمَا فَضَّلَهُ اللهُ عَلَى غَيْرِهِ بِابْتِدَائِهَا، كَذَلِكَ يُفَضِّلُهُ بِدَوَامِهَا وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٤: ٣٥) وَقَدْ بَيَّنَّا غُرُورَ الْبَشَرِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. ثُمَّ ظَهَرَ أَقْوَامٌ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي بَعْضَ الْأُمَمِ
وَالشُّعُوبِ عَلَى بَعْضٍ بِنَسَبِهَا، وَفَضَّلَ بَعْضَ أَجْدَادِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِنُبُوَّةٍ أَوْ مَا دُونَهَا، فَيُؤْتِيهِمُ الْمُلْكُ وَالسِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ لِأَجْلِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى مِلَلِهِمْ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مِنْ آبَائِهِمْ، كَمَا كَانَ شَأْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي غُرُورِهِمْ وَتَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِنَسَبِهِمْ، وَكَمَا فَعَلَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ النَّصَارَى ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، بِالْغُرُورِ فِي الدِّينِ، وَدَعْوَةِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّينَ، وَبِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا لَهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْمُخَالِفِينَ. فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ قَوْمٍ خَطَأَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا سَبَقَ فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (١٣: ١١) وَأَثْبَتَ لَهُمْ أَنَّ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ مَنُوطَةٌ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا بِأَخْلَاقٍ وَصِفَاتٍ وَعَقَائِدَ وَعَوَائِدَ وَأَعْمَالٍ تَقْتَضِيهَا، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الشُّئُونُ لَاصِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ مُتَمَكِّنَةً مِنْهَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ ثَابِتَةً بِثَبَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ الْكَرِيمُ لِيَنْتَزِعَهَا مِنْهُمُ انْتِزَاعًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ وَلَا ذَنْبٍ، فَإِذَا هُمْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، غَيَّرَ اللهُ عِنْدَئِذٍ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَبَ نِعْمَتَهُ مِنْهُمْ، فَصَارَ الْغَنِيُّ فَقِيرًا، وَالْعَزِيزُ ذَلِيلًا، وَالْقَوِيُّ ضَعِيفًا. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَفْرَادِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيهِمْ، لِقِصَرِ أَعْمَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ دُونَ تَأْثِيرِ التَّغْيِيرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ.
إِنَّ لِلْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْخُرَافِيَّةِ آثَارًا فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا أَوْ ضَعْفِهِ، وَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِوُقُوعِ التَّنَازُعِ بَيْنَ أُمَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِيهَا. وَإِنَّ لِلْأَخْلَاقِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِكَثْرَةِ بَعْضِهَا مَا يُسَمَّى خُلُقًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الشَّعْبِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا وَسُلْطَانِهَا وَفِي ثَرْوَتِهَا وَعِزَّتِهَا أَيْضًا، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ كُلِّ أُمَّةٍ وَدَوْلَةٍ ذَاتِ تَارِيخٍ مَعْرُوفٍ، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ (الدُّكْتُورِ غُوسْتَاف لُوبُون) الِاجْتِمَاعِيِّ الْكَبِيرِ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ يَجِدْ فِيهَا شَوَاهِدَ كَثِيرَةً عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَظْهَرُهَا مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ فَرَنْسَةَ.

صفحة رقم 33

وَإِنْكِلْتِرَةَ - وَبَيْنَ الشُّعُوبِ
اللَّاتِينِيَّةِ وَالشُّعُوبِ " الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّةِ " عَامَّةً - فِي الْأَخْلَاقِ، وَمَا لِذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ فِي حَيَاةِ الْفَرِيقَيْنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاسْتِعْمَارِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَخْلَاقِ فِي تَرَقِّي الْأُمَمِ وَتَدَلِّيهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاشْتِرَاكِيَّةِ) وَمَوْضُوعُهُ (نَفْسِيَّةُ الشُّعُوبِ) : وَأَذْكُرُ هُنَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ كَثِيرًا فِي كُتُبِي الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا تَنْحَطُّ وَتَزُولُ إِذَا تَنَاقَصَ ذَكَاءُ أَبْنَائِهَا، بَلْ إِذَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهَا. هَذِهِ سُنَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ جَرَتْ أَحْكَامُهَا عَلَى الْيُونَانَ وَالرُّومَانِ، وَأَخَذَتْ تَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا، لَا يَزَالُ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَيُجَادِلُونَ فِي صِحَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَذَ يَنْتَشِرُ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ مُفَصَّلًا فِي كِتَابٍ وَضَعَهَ حَدِيثًا الْكَاتِبُ الْإِنْكِلِيزِيُّ (الْمِسْتَرْ بِنْيَامِينُ كِيد) وَلَا أَرَى لِتَأْيِيدِ قَضِيَّتِي أَفْضَلَ مِنِ اقْتِبَاسِ بَعْضِ عِبَارَاتٍ عَنْهُ بَيَّنَ فِيهَا - مُنْصِفًا غَيْرَ مُحَابٍ - الْفَرْقَ بَيْنَ الْخُلُقِ (الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيِّ) وَالْخُلُقِ الْفَرَنْسَوِيِّ وَنَتَائِجَ هَذَا الْفَرْقَ اهـ. (ص١٠٤ و١٠٥) مِنَ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مُرَادِهِ، وَبَيَانِ تَفَوُّقِ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى الْفَرَنْسِيسِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ التَّارِيخِيَّةَ الشَّهِيرَةَ كَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَالْعَرَبِ قَدْ دَبَّ إِلَى الْإِفْرِنْجِ، وَكَانَ بَدْءُ فَتْكِهِ بِاللَّاتِينِ وَلَا سِيَّمَا الْفَرَنْسِيسُ مِنْهُمْ، فَقَلَّ نَسْلُهُمْ، وَصَارُوا يَرْجِعُونَ الْقَهْقَرِيَّ أَمَامَ الْإِنْكِلِيزِ وَإِخْوَانِهِمِ الْأَمِيرِكَانِيِّينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، دَعِ الْأَلْمَانَ الَّذِينَ فَاقُوا الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَدْ دَبَّ هَذَا الْفَسَادُ الْأَخْلَاقِيُّ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَعْظَمُ فَلَاسِفَتِهِمْ (هِرْبِرْت سِبِنْسَر) الشَّهِيرُ لِأُسْتَاذِنَا الشَّيْخِ (مُحَمَّد عَبْدُهُ) وَسَبَقَ نَقْلُهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي أَفْسَدَتْ أَخْلَاقَ اللَّاتِينَ فِي أُورُبَّةَ قَدْ دَبَّتْ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ، وَأَخَذَتْ تَفْتِكُ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا سَتُفْسِدُ أُورُبَّةَ كُلَّهَا.
وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي هَذَا
الْعَصْرِ بَعْدَ اتِّسَاعِ نِطَاقِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ، وَكَثْرَةِ الْمُصَنَّفَاتِ فِيهِ، وَكَثْرَةِ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ فِي مَوْضُوعِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ، حَتَّى قَالَ غُوسْتَاف لُوبُون: أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا الْقَوْلَ بَلْ يُجَادِلُونَ فِي صِحَّتِهِ، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى كَوْنِهَا صَارَتْ مَعْرُوفَةً لِلْجَمَاهِيرِ لَا تَزَالُ مَوْضِعَ مِرَاءٍ وَجِدَالٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْعَالِي الَّتِي لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْبَصِيرَةِ النَّافِذَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ الْمُمَحِّصَةِ. وَلَوْ فَقِهَهَا الْجُمْهُورُ لَكَانَ لَهَا الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَعْمَالِهِ. وَإِنَّنَا لَنَرَى الْأُلُوفَ فِي بِلَادِنَا يَتَمَثَّلُونَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ شَوْقِي بِكْ أَشْهَرِ شُعَرَاءِ الْعَصْرِ:

صفحة رقم 34

يَتَمَثَلُونَ بِهِ مُعْجَبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَدْلُولَ أَلْفَاظِهِ، وَشَرَفَ مَوْضُوعِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ حِكْمَتَهُ التَّفْصِيلِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ فَسَادِ كُلِّ خُلُقٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْفَضَائِلِ فِي أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ فِي ضَعْفِ الْأُمَّةِ وَانْحِلَالِهَا - ذَلِكَ الْفِقْهُ الَّذِي حَقَّقْنَا مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (٧: ١٧٩) فَرَاجِعْهُ مَعَ بَيَانِ مَرَاتِبِ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ ٢٠ - ٢٣ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
إِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا لَا يُجَادِلُ أَحَدٌ فِي حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي اسْتِقَامَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْعَامَّةِ فِي الْأُمَّةِ بِهِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ، وَإِنِ امْتَرَى كَثِيرُونَ أَوْ مَارَوْا فِي كَوْنِهَا دَعَائِمَ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ فِي الْمَعِيشَةِ أَوِ التَّرَقِّي فِي مَنَاصِبِ الْحُكُومَةِ، وَلَكِنْ قَلَّمَا يَجْهَلُ أَحَدٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُمْتَرِينَ فِي فَسَادِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الشَّرِكَةِ أَوِ الْحُكُومَةِ الَّتِي يَرْتَقِي الْعَامِلُ فِيهَا بِالْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ، وَإِذَا بَلَغَ قَوْمٌ هَذِهِ الْغَايَةَ مِنَ الْفَسَادِ أَلِفُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَعُدْ قُلُوبُهُمْ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِإِصْلَاحِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَلَافَوْنَ مِنْ شَرِّهِ مَا اسْتَطَاعُوا بِبَعْضِ النُّظُمِ وَالْقَوَانِينِ الصُّورِيَّةِ.
وَإِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ مَا صَارَ الْفَاسِدُونَ الْمُفْسِدُونَ يُجَادِلُونَ فِي حُسْنِهِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا حَالُ الْأَفْرَادِ، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ كَالْحَيَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِفَّةِ. يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَاءَ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ. وَهَذَا خَطَأٌ لَا مَحَلَّ هُنَا لِبَيَانِهِ، وَهُوَ قَدِيمٌ، وَإِنَّمَا الْجَدِيدُ الَّذِي لَمْ يَطْرُقْ مَسَامِعَنَا قَبْلَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْمِرَاءُ فِي فَضِيلَةِ الْعِفَّةِ، فَإِنَّ دُعَاةَ الْفَسَادِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ تَجْدِيدَ الْأُمَّةِ قَدِ اقْتَرَفُوا هَذِهِ الْجَرِيمَةَ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ مِنْ أَرْكَانِهِ عِنْدَهُمْ تَهَتُّكُ النِّسَاءِ، وَامْتِزَاجُهُنَّ بِالرِّجَالِ فِي الْمَلَاعِبِ وَالْمَرَاقِصِ وَالْمَسَارِحِ وَالْمَسَابِحِ مَوَاضِعِ السِّبَاحَةِ فِي الْبَحْرِ (فَقَدْ كَتَبَ أَحَدُهُمْ فِي بَعْضِ الصُّحُفِ النَّاشِرَةِ لِدَعَايَتِهِمْ أَنَّ الْعِفَّةَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا بِاخْتِلَافِ مَعَارِفِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْحَضَارَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرْتَقِينَ الْآنَ لَا يَعُدُّونَ رَقْصَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ مُنَافِيًا لِلْعِفَّةِ، وَلَا مُخِلًّا بِهَا. وَوَثَبَ كَاتِبٌ آخَرُ مِنْهُمْ وَثْبَةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ إِرْخَاءَ الْعِنَانِ لِلشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَا يَضُرُّ فِي الْجَسَدِ، وَلَا فِي النَّفْسِ، وَلَا يُخِلُّ بِالْآدَابِ، وَلَا يُضْعِفُ الْأُمَّةَ عَدَمُ الْتِزَامِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ فِيهِ - قَالَ الْمُفْسِدُ قَاتَلَهُ اللهُ: وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا بِالتَّجْرِبَةِ فِي الْأُمَّةِ الْأَمِيرِكَانِيَّةِ فَظَهَرَ بِهِ خَطَأُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ، وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ قَائِلُهُ إِلَى الْمُسْرِفِينَ مِنَ الْفُسَّاقِ، وَلَا يَزَالُ الْأَطِبَّاءُ وَالْحُكَمَاءُ مُجْمِعِينَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ لِبِنَاءِ الْبِنْيَةِ بِمَا يُوَلِّدُهُ مِنَ الضَّعْفِ وَالْأَمْرَاضِ، كَمَا أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ.

صفحة رقم 35
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا