
قال الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فهذا أمان، والثاني: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله والاستغفار، أما النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقد مضى، وأمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة.
ودلّت الآية على أنّ الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. وأمّا وجود النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين القوم فهو حائل من العذاب، لا يختص ذلك بنبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم، إلا بعد أن يخرج رسولهم منهم، كما كان في حقّ هود وصالح ولوط.
وتضمّنت الآية أيضا استحقاق كفار قريش عذابا دون عذاب الاستئصال لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب، فعذّبهم الله بالقتل والأسر يوم بدر وغيره.
ثم أبان الله تعالى سلب الولاية والأهلية عن الكفار على المسجد الحرام، لكفرهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وانتهاكهم حرمة البيت بالتّصفير والتّصفيق، والطّواف به عراة، رجالا ونساء.
إهدار ثواب الإنفاق للصّدّ عن سبيل الله
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)

البلاغة:
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ كناية عن المؤمن والكافر، وبين اللفظين طباق.
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إشارة بالبعيد إلى الفريق الخبيث، لبيان مدى خسارتهم الفادحة، وبعدهم عن الرّحمة الإلهيّة.
المفردات اللغوية:
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في حرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ثُمَّ تَكُونُ في عاقبة الأمر. عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندامة وألما، لفواتها وتضييعها، وفوات ما قصدوه. ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الدّنيا.
يُحْشَرُونَ يساقون. لِيَمِيزَ متعلّق ب تَكُونُ، ومعناه يفصل الْخَبِيثَ الكافر.
مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن. فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً يجمعه متراكبا بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ.
سبب النّزول:
قال محمد بن إسحاق- فيما يرويه عن الزّهري وجماعة-: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكّة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميّة، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلّموا أبا سفيان، ومن كان له في ذلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمدا قد وتركم- نقصكم- وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال- أي مال العير الذي نجا- على حربه، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا، ففعلوا. ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ إلى قوله يُحْشَرُونَ أي أنها نزلت في نفقاتهم لمعركة أحد.
روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن الآية نزلت في أبي سفيان، وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر، ومن إعانته على ذلك في أحد، لقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة قال: نزلت في أبي سفيان، أنفق

على المشركين أربعين أوقية من ذهب. والأوقية: أربعون مثقالا من الذّهب، والمثقال (٢٥، ٤ غم).
وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، سوى من استجاب له من العرب.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش «١».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حالة المشركين في الطاعات البدنية وهي الصّلاة بقوله:
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ | بيّن حالهم في الطاعات المالية، سواء في الإنفاق يوم بدر أو أحد. |
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله يقصدون من الإنفاق صدّ الناس عن اتّباع محمد، وهو سبيل الله تعالى.
وحين ينفقون تكون عاقبة هذا الإنفاق لحرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والصّدّ عنه في النهاية ندما وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما، وتنقلب حسرة، أي أنها لا تحقّق المقصود، وإنما تؤدي إلى عكسه وهو الوقوع في الحسرة والنّدامة: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف ١٨/ ٤٢]، لأنها مال ضائع في سبيل

الشّيطان، ولا تؤدّي إلى النّصر، وإنما على العكس مصيرها إلى الهزيمة. فهم يغلبون وينكسرون، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١].
هذا عذابهم في الدّنيا: ضياع المال والهزيمة، وعذابهم في الآخرة أنهم يساقون إلى جهنّم، إذا أصرّوا على كفرهم وماتوا وهم كفار لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
أما المسلمون إذا أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فتحقّق إما النّصر في الدّنيا، وإمّا الثّواب في الآخرة، أو الأمران معا وسعادة الدّارين.
وقد كتب الله النّصر للمؤمنين، والهزيمة للكافرين وضياع أموالهم، وإيقاع الحسرة والألم في قلوبهم، ليميز الفريق الخبيث من الفريق الطّيب، أي الكافر من المؤمن، فيميز أهل السعادة عن أهل الشّقاء، ويجعل الخبيث بعضه متراكما فوق بعض في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- لا يستفيد الكفار من بذلهم أموالهم في الإنفاق الذي يقصد به الصّدّ عن سبيل الله، أي منع الناس من دعوة الإسلام، إلا الحسرة والخيبة في الدّنيا، والعذاب الشّديد في الآخرة، وهو يوجب الزّجر العظيم عن ذلك الإنفاق.
٢- إن الغلبة والنّصر يكونان للمؤمنين، والهزيمة والخذلان للكافرين، وسيكون هؤلاء يوم القيامة مسوقين في حال من الذّل والصّغار إلى جهنم، وبئس المصير.
٣- إن تحقيق الغلبة للمؤمنين، وإيقاع الهزيمة بالكافرين إنما بقصد تمييز