
طلب المشركين الإتيان بالعذاب ومنع تعذيبهم إكراما للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأوضاع صلاتهم عند البيت الحرام
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
الإعراب:
هُوَ الْحَقَّ خبر كانَ، وهو: ضمير فصل بين الوصف والخبر عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. وعلى قراءة الرّفع يكون هُوَ مبتدأ، والْحَقَّ خبره، والجملة فيهما خبر كانَ.
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال.
أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجرّ، وتقديره: من ألا يعذبهم الله. وقيل: تكون زائدة. والأول أوجه. وَهُمْ يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال من ضمير يُعَذِّبَهُمُ.
مُكاءً خبر كانَ وهو الصّفير، وأصله (مكاو) فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة.
وَتَصْدِيَةً معناها التّصفيق، وأصله (تصدده) من صدّى: إذا امتنع، فأبدلوا الدّال الثّانية ياء. وقد تكون من الصّدى: وهو الصّوت الذي يعارض الصّوت، فتكون الياء أصليّة.

البلاغة:
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً أي تصفيرا وتصفيقا، جعلوا صلاتهم عند البيت على هذا النحو، مما يدلّ على جهلهم بمعنى العبادة وعدم معرفة حرمة بيت الله، وكانوا أيضا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في صلاته يخلطون عليه.
المفردات اللغوية:
ان كان هذا الذي يقرؤه محمد. هو الحق المنزل. أليم مؤلم على إنكاره. قاله النّضر بن الحارث وغيره استهزاء وإيهاما أنه على بصيرة وجزم ببطلانه. لِيُعَذِّبَهُمْ بما سألوه.
وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم تعذّب أمّة إلا بعد خروج نبيّها والمؤمنين منها.
وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حيث يقولون في طوافهم: غفرانك.
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ بالسّيف بعد خروجك والمستضعفين، وقد عذّبهم الله ببدر وغيره.
وَهُمْ يَصُدُّونَ يمنعون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. عن المسجد الحرام أن يطوفوا به.
لا يَعْلَمُونَ ألا ولاية لهم عليه.
مُكاءً صفيرا. وَتَصْدِيَةً تصفيقا، أي جعلوا ذلك موضع صلاتهم التي أمروا بها.
سبب النّزول:
نزول الآية (٣٢) :
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ:
أخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير في قوله: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ قال: نزلت في النّضر بن الحارث، لما قال: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ويلك إنه كلام ربّ العالمين، فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق».
نزول الآية (٣٣) :
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ: روى البخاري ومسلم عن أنس، قال: قال أبو جهل بن هشام: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
فنزلت: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الآية.
والاستغفار وإن وقع من الفجّار يدفع به ضرب من الشّرور والإضرار.
والخلاصة: اختلف فيمن القائل: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ فقال مجاهد وسعيد بن جبير: قائل هذا هو النّضر بن الحارث. وقال أنس بن مالك فيما رواه البخاري ومسلم: قائله أبو جهل.
وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية.
نزول الآية (٣٥) :
وَما كانَ صَلاتُهُمْ: أخرج الواحدي عن ابن عمر قال: كانوا يطوفون بالبيت ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت هذه الآية «١».
وأخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف يستهزئون به، ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت.
المناسبة:
الآيات متّصلة بما قبلها وهي قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا فلما حكى تعالى مكر المشركين بمحمد ذاته، حتى اضطرّ إلى الهجرة، حكى مكرهم في دين

محمد، سواء بادّعاء القدرة على الإتيان بمثل القرآن، أو بوصفه بأنه أساطير الأولين أي قصص السابقين المسطورة في الكتب دون تمحيص ولا تثبّت من صحّتها.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد حين قالت قريش: اللهم إن كان هذا القرآن هو الحقّ المنزّل من عندك، فعاقبنا بإنزال حجارة ترجمنا بها من السّماء، كما عاقبت أصحاب الفيل، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ مؤلم سوى ذلك.
وهذا إخبار من الله تعالى عن كفر قريش وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم وادّعائهم الباطل حين سماع آيات الله تتلى عليهم أنهم قالوا كما بيّنا سابقا: لو شئنا لقلنا مثل قولهم: إن القرآن أساطير الأولين، وإن هذا مقطوع بكذبه واختلاقه، فلو كان حقّا لأنزل علينا الحجارة أو العذاب الأليم.
ومرادهم إنكار كونه حقّا منزلا من عند الله، وأنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحقّ المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك، وأنهم يتهكّمون بقول من يقول:
القرآن حقّ، وهو غاية الجحود والإنكار، وهو من كثرة جهلهم وشدّة تكذيبهم وعنادهم وعتوّهم، ومثل من أمثال حماقتهم حين طلبوا تعجيل العذاب، وتقديم العقوبة، كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٣]، وقوله:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص ٣٨/ ١٦].
ثم ذكر الله تعالى سبب إمهالهم بالعذاب، فقال: وَما كانَ اللَّهُ... أي وما كان من مقتضى سنّة الله ورحمته وحكمته أن يعذّبهم، والرّسول موجود بينهم لأنه إنما أرسله رحمة للعالمين لا عذابا ونقمة، وما عذّب الله أمّة ونبيّها فيها، قال ابن عباس: لم يعذّب أهل قرية، حتى يخرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم منها والمؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا.

وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال في الدّنيا الذي عذّب بمثله بعض الأمم السّالفة، وهم يستغفرون. ومن هم المستغفرون؟ قال ابن عباس: هم الكفار، كانوا يقولون في الطّواف: غفرانك. والاستغفار، وإن وقع من الفجّار يدفع به ضروب من الشّرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين المستضعفين الذين هم بين أظهرهم، أي وما كان الله معذبهم، وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا عذّبهم الله يوم بدر وغيره.
وقيل: إن الاستغفار هنا يزاد به الإسلام، أي وهم يسلمون، أي يسلم بعضهم إثر بعض، أو يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه.
وبعد أن نفى الله عنهم عذاب الاستئصال في الدّنيا، أثبت احتمالا آخر، وهو إمكان تعذيبهم بعذاب دون عذاب الاستئصال عند وجود المقتضي وزوال المانع، فقال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ... أي ولم لا يعذّبهم الله بعذاب آخر، وأي شيء يمنع من إنزال عذاب أخف من ذلك العذاب؟ بسبب أنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام ولو لأداء النّسك؟ فقد كانوا يمنعون المسلم من دخول المسجد الحرام، وأخرجوا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبه من المسجد الحرام. فهم أهل لأن يعذّبهم الله، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم.
فمن كانت هذه حالته لم يكن وليّا للمسجد الحرام، فهم أهل للقتل بالسّيف والمحاربة، فقتلهم الله وعذّبهم يوم بدر، حيث قتل رؤوس الكفر كأبي جهل وأسر سراتهم، وأعزّ الإسلام بذلك.
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي ولاة أمره وأربابه، فإنهم كانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام، نصدّ من نشاء، وندخل من نشاء، فردّ الله عليهم بقوله:
وما كانوا مستحقّين للولاية والإشراف عليه، مع شركهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وما أولياؤه وحماته إلا المتّقون من المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممن يصلح

لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟! وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن المتّقين أولياؤه، فهم الآمنون من عذابه.
ثم بيّن الله تعالى سبب عدم أهليتهم لأن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقرّبهم وعبادتهم إنما كان تصفيرا وتصفيقا، لا يحترمون حرمة البيت ولا يعظّمونه حقّ التّعظيم. قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفّر وتصفّق. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: كانوا يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف، ويستهزئون به، ويصفّرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته.
وروي مثل ذلك عن مقاتل.
فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتّصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل وابن جبير: كان إيذاء للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. قال الرّازي: والأوّل أقرب لقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً.
فذوقوا القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. وهذا هو العذاب الذي طلبتموه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمّنت الآية بيان مدى الحماقة من المشركين، حين استعجلوا إنزال العذاب، وبيان كرامة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه حيث رفع عن الأمّة عذاب الاستئصال بسبب وجوده بينهم، أو بسبب الاستغفار الحاصل من بعض الناس، الكفار أو المؤمنين، قال المدائني عن بعض العلماء: كان رجل من العرب في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرّج فلما أن توفّي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبس الصّوف، ورجع عمّا كان عليه، وأظهر الدّين والنّسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر