
مختلف على عددها. ولما كانت آيات البقرة [٢١٧- ٢١٨] نزلت في صدد سرية عبد الله بن جحش على ما ذكرناه في سياقها في الجزء السابق وهي آخر سرية سيّرها النبي قبل وقعة بدر فيكون ترتيبها كثانية السور نزولا مقاربا وإن لم يمكن أن يقال إنه صحيح كل الصحة. وهذا التحفظ بسبب آيات في سورة آل عمران وهي قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) التي يكاد يجمع الرواة على أنها في صدد إنذار يهود بني قينقاع التي احتوت سورة الأنفال آيات يجمع الرواة كذلك على أنها في صدد حصار هؤلاء اليهود وإجلائهم ثم بسبب احتمال نزول فصول عديدة من سورة البقرة بعد سورة الأنفال حيث احتوت سورة البقرة فصولا عديدة متأخرة في النزول كثيرا على ما نبهنا عليه في مقدمتها والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤). (١) الأنفال: جمع نفل. وهو في أصله الزيادة على ما هو حق وواجب، ومنه نوافل العبادات. ومنه ما يعطى زيادة عن الحق من الغنائم. وكان يطلق كذلك على ما يفد من أسلاب الحرب من دواب وسلاح ومتاع. وصار جمعها (الأنفال) مرادفا لكلمة غنائم الحرب. وقد روي حديث جاء فيه أن النبي قال لأصحابه حينما صفحة رقم 8

ندبهم إلى الخروج إلى القافلة القرشية التي كانت في طريقها إلى مكة في ناحية بدر: اخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموهما والمتبادر أن التعبير استعمل على اعتبار أن الأنفال عطاء من الله للمسلمين.
(٢) ذات بينكم: دخيلة نفوسكم وسرائركم.
في الآيات:
١- حكاية لسؤال وجهه المسلمون إلى النبي ﷺ عن غنائم الحرب.
٢- وأمر بالإجابة بأنها لله والرسول.
٣- وتعقيب على الجواب بأمر موجّه إلى السائلين بتقوى الله ومراقبته وإصلاح سرائرهم وإطاعة الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا.
٤- ووصف للمؤمنين حقا: فهم الذين يستشعرون بخوف الله وهيبته حينما يذكر اسمه. ويزدادون إيمانا حينما تتلى عليهم آياته. ويتوكلون عليه. ويفوضون الأمر إليه. وهم الذين يؤدون واجب الصلاة له. وينفقون مما رزقهم في وجوه البرّ والخير. فهؤلاء هم المؤمنون حقا المستحقون للدرجات الرفيعة عند الله والذين لهم المغفرة والرزق الكريم لديه.
وأسلوب الآيات قوي رائع من شأنه أن ينفذ إلى أعماق العقول والقلوب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيات «١». منها المتفق في الجوهر مع اختلاف في الصيغة ومنها المختلف. ولقد أخرج الإمام أحمد حديثا عن عبادة بن الصامت جاء فيه: «خرجنا مع رسول الله ﷺ فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر

يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله لئلا يصيب العدوّ منه غرّة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس إلى بعضهم قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منّا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول الله وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فقسمها رسول الله على فواق بين المسلمين «١». وأخرج ابن حبان حديثا عن عبادة أيضا جاء فيه: «فينا اصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله فقسمه بين المسلمين على السواء» «٢». وأخرج الإمام أحمد حديثا عن سعد بن أبى وقاص جاء فيه أن أخاه عميرا قتل في بدر ثم قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه فأمره رسول الله أن يطرحه في القبض (أي في الغنائم) فرجع وبه ما لا يعلمه إلّا الله من قتل أخيه وحرمانه من سلبه، فما جاوز إلّا قليلا حتى نزلت آيات الأنفال الأولى. فقال له رسول الله اذهب فخذ سلبك «٣».
رواية قصة سيف سعد رواها الترمذي في حديث صححه عن مصعب بن سعد عن سعد بصيغة أخرى جاء فيها «قال سعد لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إنّ الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال هذا ليس لي ولا لك. فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي. وجاء الرسول فقال إنك سألتني وليست لي وقد صارت لي وهو لك قال ونزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» «٤». وروى الطبري روايات أخرى عن ابن عباس منها «أن النبي فضّل أقواما على بلاء أي قال من فعل كذا فله كذا. فأبلى قوم وتخلّف
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) تفسير الطبري.
(٤) التاج، ج ٤ ص ١٠٧.

آخرون فاختلفوا على الغنائم بعد انقضاء الحرب فجعلها الله لرسوله». ومنها «أن الشبان يوم بدر تسارعوا إلى الحرب وبقي الشيوخ تحت الروايات فلما كانت الغنائم جاء الشباب يطلبونها فقال لهم الشيوخ لا تستأثروا عليها فإنّا كنا درءا لكم.
فتنازعوا فأنزل الله الآيات» «١». وهناك رواية يرويها الطبرسي بالإضافة إلى الروايات السابقة عزوا إلى مجاهد تذكر «أن المهاجرين قالوا لماذا يرفع منّا الخمس ولماذا يخرج منّا فأنزل الله الآيات إيذانا بأن الأنفال جميعها لله ورسوله يقسمانها كيف شاءا». ومع عدم نفي الروايات الأولى التي تنطوي على صور محتملة لما كان من أصحاب رسول الله حول قسمة غنائم بدر فإننا نميل إلى ترجيح صحة رواية الطبرسي عن مجاهد التي تفيد أن النبي ﷺ أراد أن يعزز خمس الغنائم لإنفاقه على مصالح المسلمين فاعترض فريق من المهاجرين على ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إيذانهم في أول السورة بأن الغنائم جميعها لله ورسوله. وقد يؤيد هذا نص الآية [٤١] من السورة التي انصبّ التشريع فيها أو انحصر بالخمس بأسلوب قوي يؤذن فيه المؤمنون بأن ذلك هو ما يجب أن يعلموه ويقفوا عنده. وقد يؤيده ذلك ما يلمح في الآيات التي بعد هذه الآيات من إيذان متكرر بأن ما أحرزه المؤمنون من انتصار على أعدائهم إنما كان بتأييد الله. كأنما يساق ذلك لتبرير هذا التشريع ولتوكيد القول إن الغنائم والحالة هذه من حقّ الله ورسوله وليس لهم أي حقّ باعتراض وخلاف. بل وكأنما كان نزول هذه السورة من أجل ذلك، والله تعالى أعلم.
ولقد اختلفت الاجتهادات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل فيما إذا كانت الآية [٤١] قد نسخت هذه الآيات أم لا. من حيث إن هذه الآيات جعلت الغنائم كلها لله ورسوله والآية [٤١] حصرت حق الله ورسوله بالخمس. وقد عزي إلى ابن زيد قول بأنها محكمة لأنها قررت مبدأ لا يصح عليه النسخ وتغيير وهو أن الغنائم لله ولرسوله يقسمانها كيف شاءا وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وما تقدم

من شرح يؤيد هذا الترجيح والتوجيه إن شاء الله.
ولقد روى البغوي عن عطاء أن جملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [٤] تعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وقد ساق المفسرون بعض الأحاديث عن منازل أهل الجنة ودرجاتها في سياق الجملة. والمتبادر أن الجملة هي بسبيل بيان مراتب المؤمنين العالية عند الله على سبيل الترغيب والتنويه وهو ما قرره غير واحد من المفسرين أيضا.
ولقد كانت جملة زادَتْهُمْ إِيماناً موضوع بحث كلامي فيما إذا كان الإيمان يزيد وينقص. ولقد بحثنا هذا الموضوع ومحّصناه في سياق جملة مماثلة في سورة المدثر فنكتفي بهذا التنبيه.
تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية
وبمناسبة الأمر بإطاعة الله ورسوله في الآية الأولى نقول إن مثل هذا الأمر قد تكرر كثيرا في السور المدينة دون السور المكية التي لم يرد فيها مثل هذا الأمر وإن أكثرها موجّه إلى المؤمنين. ومنها ما تكرر في هذه السورة مثل الآيات [٢٠ و ٤٧] وفي بعضها جعل ذلك دليلا على الإيمان. وفي بعضها جعلت طاعة الرسول من طاعة الله. وفي بعضها جعلت رحمة الله منوطة بذلك «١».
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في العهد المدني. لأن المؤمنين في العهد المكي كانوا قلّة مصفّاة مستغرقة في الله ورسوله ودينه. وكلهم دخلوا