آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ

بالانهزام. و (الزحف) الجيش الكثير، تسمية بالمصدر، والجمع زحوف، مثل فلس وفلوس. ويقال: زحف إليه، أي مشى، وزحف الصبيّ على استه قبل أن يقوم. شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف، أي يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان.
قال أبو السعود: زَحْفاً منصوب، إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي: زاحفين نحوكم، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر، هو الحال منه، أي يزحفون زحفا.
وأما كونه حالا من فاعله أو منه، ومن مفعوله معا كما قيل- فيأباه قوله تعالى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدوّ، أو بكثرتهم. بل توجه العدوّ إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة، والمحوج إلى النهي عنه.
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين، حيث تولّوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا- بعيد.
والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال، وهم كثير جمّ، وأنتم قليل، فلا تولوهم أدباركم، فضلا عن الفرار، بل قابلوهم وقاتلوهم، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم.
قال الشهاب: عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام، وتنفيرا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٦]
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي مائلا له.
يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل. وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، وإما بالفرّ للكرّ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفرّ عنه، ثم يكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منضمّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ما صار إليه من عذاب النار.

صفحة رقم 266

تنبيهات:
الأول- دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر. لأنه توعد عليه وعيدا شديدا.
الثاني- ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلّا حالة التحرف أو التحيز، وهو مروي عن ابن عبّاس واختاره أبو مسلم. قال الحاكم:
وعليه أكثر الفقهاء.
وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر)، لقوله تعالى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ وأجيب بأن الإشارة في يَوْمَئِذٍ إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.
الثالث- ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إلي لكنت له فئة. وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال: من فرّ من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد
حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد «١» وأبي داود»
والترمذيّ «٣» وغيرهم. قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة.
فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون. فقال: لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده
. قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد- انتهى- أي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الحاكم في (مسألة الفرار) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده. فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار. وإن ظن الهلاك، جاز الفرار

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٧٠ والحديث رقم ٥٣٨٤.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٦- باب في التولي يوم الزحف، حديث ٢٦٤٧. [.....]
(٣) أخرجه الترمذي في: الجهاد، ٣٧- باب ما جاء في الفرار من الزحف.

صفحة رقم 267

إلى فئة وإن بعدت، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات. وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور.
وعن الكرخي: أن الثبات والمصابرة واجب، إذا لم يخش الاستئصال، وعرف عدم نكايته للكفار، والتجأ إلى مصر للمسلمين، أو جيش، وهكذا أطلق في (شرح الإبانة) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه.
الرابع- روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول: كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون ب (النسخ) تقييد المطلق، أو تخصيص العامّ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها.
قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة. لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً [الأنفال: ٦٥] فأوجب الله المصابرة على الواحد للعشرة. لأنه خبر معناه الأمر. فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم الله تعالى، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال: ٦٦].
وعن ابن عباس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ.
وبالجملة، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضّعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضّعف.
وفي (المهذب) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار. لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالأفضل الثبات. وإن ظنوا الهلاك، فوجهان:
يلزم الانصراف لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥].
والثاني: يستحب ولا يجب، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة. وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك، لم يجز الفرار. وإن ظنوه فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]. ولا يجوز، وصححوه لظاهر الآية.
ثم بيّن تعالى أن نصرهم يوم بدر، مع قلتهم، كان بحوله تعالى وقوته، فقال سبحانه:

صفحة رقم 268
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية