آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ

ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف، وذهب جماعة كما قال في إتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزآبادىّ في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.

صفحة رقم 149

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد:

ان تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل
لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن أقدام وغيرهما، وإطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده،
وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة،
وقيل: لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء وقيل: ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدال أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ [البقرة: ٢١١] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما
أخرجه أحمد. وابن حبان. والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي

صفحة رقم 150

الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: إن السؤال استعطاء. والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر.
فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال: يا رسول الله إنك قد وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن،
وادعوا زيادة عَنِ واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف «يسألونك الأنفال» وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة عَنِ في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط عَنِ على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبني ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور.
وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: ٤١] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:
٤١] الآية، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وادعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا.
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه،
وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه

صفحة رقم 151

عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده ورده صلّى الله عليه وسلّم قبل النزول وتعليله بقوله: ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلّى الله عليه وسلّم لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ والفرض أنه المانع من إعطاء المسئول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول: قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان:
أشركونا معكم فإنا كنا لكم رداء ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية»

ويشير إلى وقوعه أيضا ما
أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سنن عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء،
ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض.
وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد بن العاص والمحفوظ كما قال: أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن،
فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد أنه قال: «أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال: رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت: أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ».
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل إن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها.
وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد: هو لي وقال الأنصاري: هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية،
ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح. ولم تقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية.
نعم
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مروديه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت:
عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت: قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة

صفحة رقم 152

والسلام: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي واني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» إلخ،
فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا: إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط، فلا بد من القول بالنسخ كما هو احدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجود من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وادعاء أن معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: فيه «وقد صار لي»
أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم
«واني قد وهب لي»،
وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ إلخ لا يكون جوابا لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ. وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعد ما يرفع الخمس للفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في السير الكبير أنه لو قال: ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه ابطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال: من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضا ينتفى ما قالوا: لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة.
وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب.
ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين. والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل.
وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال: على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الأنفال: ٦٥] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بالابلاغ، وقد يقال: حاصل الجواب يا قوم ان ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكمة فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك.
ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضا: لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وان حرم غيرهم ممن كان ردا وملجأ

صفحة رقم 153

حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجز علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البيت، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بالرد والمواساة فيما حل بأديكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد. وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول:
إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب.
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض»
وذاتَ كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و «بين» اما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن ذاتَ هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا انائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم.
وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلّى الله عليه وسلّم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقرأ ابن محيصن «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وادغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه

صفحة رقم 154

وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة.
وقرىء «وجلت» بفتح الجيم ومضارعه يحل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل ويأجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه، وقرأ عبد الله «فرقت» أي خافت وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي القرآن كما روي عن ابن عباس زادَتْهُمْ إِيماناً أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف، وبما
رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد ابن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر».
وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره متوالية فيثبت له صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا

صفحة رقم 155

يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة اعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانوا الشريعة غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لامكان الاطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فان نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فيما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل.
ويحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. والبخاري. وأبو داود. والنسائي. وحاتم الرازي. وأبو حاتم محمد بن حبان البستي. والعقيلي. وابن عدي. والدارقطني وغيرهم.
وأما أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.
وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً
[آل عمران: ١٧٢] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: ٤] إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال: إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك. وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار».
واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مقل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر

صفحة رقم 156

عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.
وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبئ عن المدح، وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة أُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال.
وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث قال:
أصبحت مؤمنا حقا فقال صلّى الله عليه وسلّم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني انظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا»

ونصب حَقًّا على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى: إنما وصف بذلك أقواما على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.
وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقّا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود تبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وروي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: ٨٢] فقال له: هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له أو لم تؤمن؟ فانقطع قتادة قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦] بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.
وفي الكشف أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقا أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للابهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا، وذلك لأن هذه الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله

صفحة رقم 157

تعالى ومن فوض كفى لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الإيمان،
وقد جاء «من شك في إيمانه فقد كفر»،
وما أحسن ما
نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ فو الله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟
وهذا ونحوه مما يجعل الخلاف لفظيا، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي،
وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وعن الربيع بن أنس «سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر السبعين سنة»
ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار.
وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه دَرَجاتٌ لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأولئك وأن تكون مبتدأ مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات وَمَغْفِرَةٌ عظيمة لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة.
وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة، وقيل: هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد.
والمراد بالبيت مسكنه صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك، وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز وجل، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم، والكاف يستدعى مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه

صفحة رقم 158

القصة التي هي إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات اخراجك وضعف هذا ابن الشجري، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل، وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الانتظام، وقال أبو حيان: إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر، وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق التئاما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض، وقيل: تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد، وقيل: المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه، وقيل: التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك، وقيل: إنهم لكارهون كراهة ثابتة كاخراجك، وقيل:
هو صفة لحقا أي أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك، وقيل: صفة لمصدر يجادلون أي يجادلونك جدالا كاخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي، وقيل: الكاف بمعنى إذ أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل:
الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن نقل عن أبي عبيد وجعل «يجادلونك» الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و «ما» حينئذ موصولة أي والذي أخرجك، وقيل: إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه، وقيل: هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا، وقيل: في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك، وقيل: تقديره قسمتك حق كإخراجك، وقيل: ذلكم خير لكم كاخراجك، وقيل: تقديره اخراجك من مكة لحكم كاخراجك هذا، وقيل: هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا.
وقال أبو حيان: خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لاعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال: ٩] الآيات، ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه: رِزْقٌ كَرِيمٌ على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ للخروج اما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى، أو يعتبر ذلك ممتدا، والقصة على ما
رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان. وعمرو بن العاص. ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم إنه خرج

صفحة رقم 159

بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما: العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس- وهو يريد الأنصار- لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال: يا رسول الله إيانا تريد؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام: سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم اهـ،
وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية،
وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له: لم؟ فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الذي هو تلقي النفير المعلى للدين لايثارهم عليه تلقي العير،
والجملة اما مستأنفة أو حال ثانية، وجوز أن تكون حالا من الضمير في لَكارِهُونَ، وقوله سبحانه: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ متعلق بيجادلون، وما مصدرية، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم باعلامك أنهم ينصرون ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون، وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سبق للموت وَهُمْ يَنْظُرُونَ حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته، وفي قوله سبحانه وتعالى: كَأَنَّما إلخ إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود. والزبير بن العوام، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد استعدوا للقتال وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم، فإذ نصب على المفعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل، وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والالتفات وإِحْدَى مفعول ثان ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء، أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين.
وقرىء «يعدكم» بسكون الدال تخفيفا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها، وقوله سبحانه وتعالى: أَنَّها لَكُمْ بدل اشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد، أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملائك وتتصرفون فيها كيفما شئتم وَتَوَدُّونَ عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ من الطائفتين، وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو

صفحة رقم 160

جهل، وغيرها العير ورئيسهم أبو سفيان، والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير، والشوكة في الأصل واحدة الشوك المعروف ثم استعيرت للشدة والحدة وتطلق على السلاح أيضا وفسرها بعضهم به هنا وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يظهر كونه حقا بِكَلِماتِهِ الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالامداد أو بما قضي من أسر الكفار وقتلهم وطرحهم في قليب بدر، وقرىء «بكلمته» بالإفراد لجعل المتعدد كالشيء الواحد أو على أن المراد بها كلمة كن التي هي عند الكثير عبارة عن القضاء والتكوين وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي آخرهم والمراد يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفنى الآخر إلا بعد فناء الأول، ومنه سمي الهلاك دبارا. والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور والله عزّ وجلّ يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين، وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر أولا بالودادة وثانيا بالإرادة، وقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الحكمة الباهرة فعل ما فعل لا لشيء آخر، وليس فيه مع ما تقدم تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر.
وأشار الزمخشري إلى أن هذا نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك: أردت أن أكرم زيدا لا كرامه ليكون فيه ما يكون، ومعنى ابطال الباطل على طرز ما أشرنا إليه في احقاق الحق وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك أعني إحقاق الحق وإبطال الباطل، والمراد بهم المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ وإن كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيبي، قيل: وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعا والثاني معيارا، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: لِيُحِقَّ. واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن، وإِذْ للزمان الماضي فكيف يعمل بها. وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن إِذْ قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: ٧١].
وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه. وقال بعض المحققين في الجواب: إن كون الاحقاق مستقبلا إنما هو بالنسبة إلي زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد، وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمن النزول، وصيغة الاستقبال في تَسْتَغِيثُونَ لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وقيل: هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا، وقيل: ب تَوَدُّونَ وليس بشيء، والاستغاثة كما قال غير واحد: طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك، وقد يتعدى بالحرف كقوله:

حتى استغاث بماء لا رشاد له من الأباطح في حافاته البرك
وكذا استعمله سيبويه وزعم أنه خطأ، والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون، قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وقال الزهري: إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل

صفحة رقم 161

نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك،
وعليه فالجمع للتعظيم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي فأجاب دعاءكم عقيب استغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي بأني فحذف الجار، وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوبا أو مجرورا خلاف. وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من جنس القول، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر، وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي، والمراد بممدكم معينكم وناصركم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول.
وعن الزجاج أن بينهما فرقا فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي، وقال بعضهم: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير، وجاء أردف بمعنى اتبع مشددا وهو يتعدى لواحد وبمعنى اتبع مخففا وهو يتعدى لاثنين على ما هو المشهور، وبكل فسر هنا، وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه، وجعلوا الاحتمالات خمسة، احتمالان على المعنى الأول. أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين، والمعنى متبعين المؤمنين أي جائين خلفهم، وثانيهما أن يكون الموصوف بعض الملائكة والمفعول بعض آخر، والمعنى متبعا بعضهم بعضا آخر منهم كرسلهم عليهم السلام، وثلاثة احتمالات على المعنى الثاني. الأول أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضا. الثاني كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم. والثالث كذلك أيضا إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم اتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم.
وقرأ نافع ويعقوب «مردفين» بفتح الدال، وفيه احتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم، وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم، وأريد بالغير في الاحتمالين المؤمنون، فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم، وقد يقال: المراد بالغير آخرون من الملائكة وفي الآثار ما يؤيده،
أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا فيها»
لكن في الكشاف بدل الألف في الموضعين خمسمائة، وقرىء «مردفين» بكسر الراء وضمها، وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فأبدلت التاء دالا لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو لاتباع الدال أو بالضم لاتباع الميم، وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضا للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بكسر الميم والراء، ونقل عن بعضهم أن مردفا بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته.
ومن الناس من فسر الارتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم، وعن السدي أنه قرىء «بآلاف» على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ [آل عمران: ١٢٤] وبِخَمْسَةِ آلافٍ

صفحة رقم 162

[آل عمران: ١٢٥] قيل: ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أنه قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين وهو جمع ليس بالجيد.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولا بألف ثم آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف، وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة، وصرح بعضهم أن ما فيها بيان اجمالي لما في تلك السورة بناء على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم، وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم، والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وفي الأخبار ما يدل عليه، وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين، وتفصيل ذلك في السير، وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر وَما جَعَلَهُ اللَّهُ كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه، والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى المصدر المنسبك في أَنِّي مُمِدُّكُمْ على قراءة الفتح والمصدر المفهوم من ذلك على الكسر، واعتبار القول ورجوع الضمير إليه ليس بمعتبر من القول، أي وما جعل امدادكم بهم لشيء من الأشياء إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالامداد قُلُوبُكُمْ وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة ونصب بُشْرى على أنه مفعول له ولتطمئن معطوف عليه، وأظهرت اللام لفقد شرط النصب، وقيل: للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله سبحانه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: ٨].
وقيل: إن الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما بُشْرى على أنه استثناء من أعم المفاعيل، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم ولتطمئن به قلوبكم فعل ما فعل لا لشيء آخر والأول هو الظاهر، وفي الآية اشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا وهو مذهب لبعضهم، ويشعر ظاهرها بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بذلك الامداد وفي الأخبار ما يؤيده، بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة أو الملائكة عليهم السلام.
وروي عن أبي أسيد وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا كائن من عنده عزّ وجلّ، فالمنصور هو من نصره الله سبحانه والأسباب ليست بمستقلة، أو المعنى لا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم السلام فإن الناصر هو الله تعالى لكم والملائكة، وعليه فلا دخل الملائكة في النصر أصلا، وجعل بعضهم القصر على الأول افرادي وعلى الثاني قلبي إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالب في حكمه ولا ينازع في قضيته حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة الباهرة، والجملة تعليل لما قبلها وفيها اشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أي يجعله غاشيا عليكم ومحيطا بكم. والنعاس أول النوم قبل أن يثقل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل. وإِذْ يُغَشِّيكُمُ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ على القول بجواز تعدد البدل، وفيه اظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أو كاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا.

صفحة رقم 163

وجوز تعلقه بالنصر، وضعف بأن فيه أعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين، والفصل بين المصدر ومعموله، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافا للكسائي والأخفش، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقيل عليه: إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده، وبالجعل، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه لزوم التقييد ولا تقييد، وأجيب بما أجيب، والانصاف بعد الاحتمالات الأربع. وقرأ نافع «يغشيكم» بالتخفيف من الاغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» على إسناد الفعل إلى النعاس. وقوله سبحانه وتعالى: أَمَنَةً مِنْهُ نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى.
وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذ الصحابة، وقال بعض المدققين: إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت، وما تقدم أقل انتشارا.
وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنا فيكون مصدر آمنه، وهو على بعد إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشية والأمان هو الله تعالى، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلا وتخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس. والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا أمن أتاهم، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله:

يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود
وما يقال: إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول: فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد أهل السنة التي تقتضي نسبة فعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول: المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام

صفحة رقم 164

فقد قالوا: إن ذلك المقام اقتضي الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقرىء «أمنة» بالسكون وهو لغة فيه.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على يُغَشِّيكُمُ وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء: وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر وَيُنَزِّلُ بالتخفيف من الانزال وقرأ الشعبي ما لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن ما موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم، ونظير هذا اللام اللام في قولك: أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك: زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهور أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر، وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء.
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين؟ فانزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله.
وقرىء «رجس» وهو بمعنى الرجز وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء: ربط نفسه عليه.
قال الواحدي: ويشبه أن تكون عَلى صلة أي وليربط قلوبكم. وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للاستعلاء. وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها، وفي ذلك من إفادة التمكن ما لا يخفى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول.
وجوز أن يكون للربط، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف، وقيل: منصوب بيثبت ويتعين حينئذ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال، ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على ذلك، وقال بعضهم: يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى اقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه، وقيل: هو بدل ثالث من إِذْ يَعِدُكُمُ ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام. واختار بعض المحققين الأول مدعيا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة. وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة والسلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور،

صفحة رقم 165

ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته.
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى أَنِّي مَعَكُمْ أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣، الأنفال: ٤٦] ونحوه، والمنسبك، مفعول يوحى، وقرىء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه، والفاء في قوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فانهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم.
وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قولة إلقاء الشر ويقال له وسوسة وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد.
وعن الحسن أنه كان بمحاربة أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ تفسير القول تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ كأنه قيل: إني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء رعب السيل الوادي إذا ملأه كان السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى: فَثَبِّتُوا مبين لكيفية التثبيت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه على أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: سَأُلْقِي إلخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط سَأُلْقِي تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبيت بغير المقاتلة، وقوله عزّ وجلّ: سَأُلْقِي تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في فَاضْرِبُوا للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي

صفحة رقم 166

إلخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي إلخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظا. وأما القول بأن فَاضْرِبُوا إلخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأني ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس كما روي عن عطاء وعكرمة، وكونها فوق الأعناق ظاهر. وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق وفَوْقَ باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف، وقيل: إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كان بمعنى الرأس، وقيل: هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق، وقيل: زائدة أي فاضربوا الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد.
وقال الراغب: هي الأصابع وسميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن بين أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام، ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: ٤] وما نحن فيه لأجل أنهم يقاتلون ويدافعون، والظاهر أنها حقيقة في ذلك، وبعضهم يقول: إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء.
وقيل: المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وآثره في الكشاف. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الجسد كله في لغة هذيل، ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومِنْهُمْ متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من كُلَّ بَنانٍ وضعف كونه حالاف من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف لِكَ
إشارة إلى الضرب والأمر به أو إلى جميع ما مر. والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب. وجوز أن يكون خطابا للجمع، والكاف تفرد مع تعدد من خوطب بها، وليست كالضمير على ما صرحوا به، ومحل الاسم الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه وتعالى: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وقال أبو البقاء: إن ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وليس الأمر ذلك، والباء للسببية والمشاقة العداوة سميت بذلك أخذا من شق العصا وهي المخالفة أو لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العداوة سميت عداوة لأن كلا منهما في عدوة أي جانب وكما أن المخاصمة من الخصم بمعنى الجانب أيضا، والمراد بها هنا المخالفة أي ذلك ثابت لهم أو واقع عليهم بسبب مخالفتهم لمن لا ينبغي لهم مخالفته بوجه من الوجوه مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي يخالف أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه والاشعار بعلية الحكم، وبئس خطيب القوم أنت اقتضاه الجمع على وجه لا يبين منه الفرق ممن هو في ربقة التكليف وأين هذا من ذاك لو وقع ممن لا حجر عليه، وإنما لم يدغم المثلان لأن الثاني ساكن في الأصل والحركة لالتقاء الساكنين فلا يعتد به، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد عند من يلتزمه ولا يكتفي بالفاء في الربط أي شديد العقاب له، أو تعليق للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله تعالى فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني، كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فاذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقاب شديد، وقيل: هو وعيد بما أعد لهم في الآخر بعد ما حلق بهم في الدنيا، قال بعض المحققين: ويرده قوله سبحانه وتعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ

صفحة رقم 167

عَذابَ النَّارِ
فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلِكُمْ إشارة إلى نفيس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوته لهم، أما على الأول فلأن الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه فَذُوقُوهُ والواو في وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ بمعنى مع، فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا، فوقع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به، وأما على الثاني فلأن الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وأَنَّ إلخ معطوف عليه، والمعنى حكم الله تعالى ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا، وقوله تعالى: فَذُوقُوهُ اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد، والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه اهـ.
واعترض على الاحتمال الأول بأن الكلام عليه من باب الاشتغال وهو إنما يصح لو جوزنا صحة الابتداء في ذلِكُمْ وظاهر أنه لا يجوز لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة. ورد بأنه ليس متفقا عليه فإن الأخفش جوزه مطلقا، وتقدير باشروا مما استحسنه أبو البقاء وغيره قالوا: لتكون الفاء عاطفة لا زائدة أو جزائية كما في نحو زيدا فاضربه على كلام فيه، وبعضهم يقدر عليكم اسم فعل. واعترضه أبو حيان بأن أسماء الأفعال لا تضمر. واعتذر عن ذلك الحلبي بأن من قدر لعله نحا نحو الكوفيين فإنهم يجرون اسم الفعل مجرى الفعل مطلقا ولذلك يعملونه متأخرا نحو كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤]، وما أشار إليه كلامه من أن قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ منصوب على أنه مفعول معه على التقدير الأول لا يخلو عن شيء، فإن في نصب المصدر المؤول على أنه مفعول معه نظرا. ومن هنا اختار بعضهم العطف على ذلكم كما في التقدير الثاني، وآخرون اختاروا عطفه على قوله تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ داخل معه تحت الإيحاء أو على المصدر في قوله سبحانه وتعالى:
َنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
ولا يخفى أن العطف على ذلِكُمْ يستدعي أن يكون المعنى باشروا أو عليكم أو ذوقوا أن للكافرين عذاب النار وهو مما يأباه الذوق، ولذا قال العلامة الثاني: إنه لا معنى له، والعطفان الآخران لا أدري أيهما أمر من الآخر، ولذلك ذهب بعض المحققين إلى اختيار كون المصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، وقيل: هو منصوب باعلموا ولعل أهون الوجوه في الآية الوجه الأخير.
والانصاف أنها ظاهرة في كون المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا، والخطاب فيها مع الكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في اقُّوا
إليه، ولا يشترط في الخطاب المعتبر في الالتفات أن يكون بالاسم كما هو المشهور بل يكون بنحو ذلك أيضا بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه كذا قيل وفيه كلام، وقرأ الحسن وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ بالكسر، وعليه فالجملة تذييلية واللام للجنس والواو للاستئناف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء به وحثا على المحافظة عليه إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً الزحف كما قال الراغب انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي والبعير المعيي والعسكر إذا كثر فتعثر انبعاثه، وقال غير واحد: هو الدبيب يقال: زحف الصبي إذا دب على استه قليلا قليلا ثم سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بالقياس في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة كما قال سبحانه وتعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨] وقال قائلهم:

صفحة رقم 168

ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية، ونصبه إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي زاحفين نحوكم أو على مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا. وجوز كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا، واعترض بأنه يأباه قوله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الأدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الأدبار عادة والمحوج إلى النهي، وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا بعيد انتهى.
وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون اعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي أحداهما نحو الأخرى مشيا رويدا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا، وتقييد النهي بذلك لايضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الإدبار لما أنه مناف لتلك الحال، كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل والمراد من تولية الأدبار الانهزام فإن المنهزم يولي ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام وتنفيرا عنه. وقد يقال: الآية على حد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: ٣٢] والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء ووقته دُبُرَهُ فضلا عن الفرار.
وقرأ الحسن بسكون الباء إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي تاركا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجها إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردا يريد الكر كما روي عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه. ومن كلامهم:
نفر ثم نكر... والحرب كر وفر
وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء «الحرب خدعة» وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبا فيها رزقه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضما إليهم وملحقا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي.
ويؤيده ما
أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وحسنه والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا. نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عيه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ
والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها.
وبما روي أنه انهزم من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا فئتك، وبعضهم يحمل
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم العكارون»
على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد. نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن- متحيز- مفتعل لا مفتعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يجوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز

صفحة رقم 169

تفعل نظرا إلى شيوع الحيز بالياء، فلهذا لم يجىء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرا. لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفعيل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولى بمعنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في
قوله عليه الصلاة والسلام «العالم هلكى إلا العالمون» الحديث.
وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا لقتال أو متحيزا فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر مِنَ اللَّهِ صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه ينجيه من القتل وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز،
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف»
وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦] الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخا وهو المروي عن أبي رباح وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث،
وروي عن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي نضرة والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضا أن الحكم مخصوص بأهل بدر،
وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم فلأن الله تعالى ناصره، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن الله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال بعضهم: إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عاما فيه لا خاصا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بعده وَيَوْمَئِذٍ إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين: إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اهـ، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على

صفحة رقم 170

نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليله على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص بالله تعالى وبالرسول مظهرية فَاتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن رؤية الأفيال رؤية فعل الله تعالى وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بمحو صفحات نفوسكم التي هي منشأ صدور ما يوجب التنازع والتخالف وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الإيمان الحقيقي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ كذلك الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمانا بالترقي من مقام العلم إلى العين.
وقد جاء أن الله تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا بقوله عز قائلا: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجل كضربة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهي فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوي قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهروردي قدس سره ما روي عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيا سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: زادَتْهُمْ إِيماناً على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثا بقوله عز شأنه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوض الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضا ولا يزول عنهم أصلا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع
في الأثر «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من العلوم التي حصلت لهم بالسير يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم الذين ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ من مراتب الصفات وروضات جنات القلب وَمَغْفِرَةٌ لذنوب الأفعال وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وقال بعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ متلبسا بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم المحتجبون برؤية الأفعال لَكارِهُونَ أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لك أولهم بالمعجزات إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية فَاسْتَجابَ لَكُمْ عند ذلك أَنِّي مُمِدُّكُمْ من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ أي القوة السماوية وروحانياتها مُرْدِفِينَ لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله تعالى الامداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لما فيها من اتصالها

صفحة رقم 171

بما يناسبها وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ والأسباب في الحقيقة ملغاة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي على النصر من غير سبب حَكِيمٌ يفعله على مقتضى الحكمة وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً وهو ماء علم اليقين لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ عن حدث هواجس الوهم وجنابة حديث النفس وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته وتخويفه وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ أي يمد الملكوت بالجبروت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لئلا يرفعوا رأسا وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد، ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق حيث قال سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الخطاب للمؤمنين، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم، وقيل: التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غائمين أقبلوا يتفاخرون يقولون: قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت. وقال أبو حيان ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» وكان امتثال ما أمر به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى، قال السفاقسي: وهذا أولى من دعوى الحذف. وقال ابن هشام: إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء.
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى، والخطاب في قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلّى الله عليه وسلّم بالحصى. يوم بدر وما كان منه.
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم
وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشىء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفي وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا

صفحة رقم 172

يخفى على من راجعه وأنصف. ويرد نحو هذا على ما
روي عن الزهري. وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: استأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما
أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاؤوه بقوس كبداء فرمى صلّى الله عليه وسلّم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية،
والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلّى الله عليه وسلّم راميا ونفى كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل «أجيب» بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتي بنفيه مطلقا كاثباته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح: النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض بأن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طريق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده «وأجيب» بأنا لا ندعى إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر. واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير رَمى في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير رَمَيْتَ في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلا: ما قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك «وأجيب» بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف. واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيقة إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفي الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجلى البديهيات فأي فائدة في الاخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى

صفحة رقم 173

مباشرة له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلّى الله عليه وسلّم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلّى الله عليه وسلّم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل.
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلّى الله عليه وسلّم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك له عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلّى الله عليه وسلّم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرىء «ولكن الله» بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير:

وأرعن مثل الطود تحسب أنه وقوف لجاج والركاب تهملج
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلي
واختار بعضهم تفسيره بالابلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى فلان بلاء حسنا أي قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو اعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي إلخ.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم أو لكل مسموع ويدخل فيه ما ذكر عَلِيمٌ أي

صفحة رقم 174

بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ إلخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. وجوز جعل اسم الإشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوبا بفعل مقدر.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبوبكر «موهّن» بالتشديد ونصب كيد. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين واهد الفئتين وأكرم الحزبين.
وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. والأول مروي عن الكلبي والسدي، والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله وَإِنْ تَنْتَهُوا عن حراب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته فَهُوَ أي الإنهاء خَيْرٌ لَكُمْ من الحراب الذي ذقتم بسببه من القتل والأسر، ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم وَإِنْ تَعُودُوا أي إلى حرابه عليه الصلاة والسلام نَعُدْ لما شاهدتموه من الفتح وَلَنْ تُغْنِيَ أي لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها شَيْئاً من الإغناء أو المضار وَلَوْ كَثُرَتْ تلك الفئة، وقرىء «ولن يغني» بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئا على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وجملة ولو كثرت في موضع الحال وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم، وقرأ الأكثر «وإن» بالكسر على الاستئناف، قيل: وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل: القصد إعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت، وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وهذا وإن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، ويؤيدها قراءة ابن مسعود «والله مع المؤمنين»، وروي عن عطاء.
وأبي بن كعب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر أن الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان، ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في تَسْتَفْتِحُوا وجاءَكُمُ للمؤمنين، وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا، وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا أي تتولوا، وقرىء بتشديد التاء عَنْهُ أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام لأن المقصود طاعته صلّى الله عليه وسلّم، وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله (١) وقيل: الضمير للجهاد، وقيل: للأمر الذي دل عليه الطاعة، والتولي مجاز، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جمل حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي

(١) قوله «ورسوله» كذا بخطه والأولى إسقاطها اهـ.

صفحة رقم 175

مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم وإذعان، وقد يراد بالسماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلا، وقوله سبحانه وَلا تَكُونُوا تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة والمنافقين الذين يدّعون السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا، والمنفي سماع خاص لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي أثر تقرير، والدواب جمع دابة، والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي إن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه الصُّمُّ الذين لا يسمعون الحق الْبُكْمُ الذين لا ينطقون به، والجمع على المعنى، ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا.
وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، وقيل: التقديم لأن وصفهم بالصم أهم نظر إلى السابق واللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه. أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال، وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى لَأَسْمَعَهُمْ سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا بعد التصديق والقبول وَهُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، وفي المعنى والجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا وذلك لاختلاف الوسط. أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. والثاني أن يقدر ولو أسمعتهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. والثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسيا متحد الوسط، إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالأسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال.
واعترض على أصل السؤال بأن لفظ لَوْ لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في

صفحة رقم 176

القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشيء غيره، ولهذا لا يصرح باستثناء نقيص التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا ومنع كونه منتجا لانتفاء شرائط الانتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الانتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق قوله سبحانه: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتداء قوله تعالى:
لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا كلاما آخر على طريقة- لو لم يخف الله تعالى لم يعصه- وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي في الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية ادعائي فلا يكون على هيئة القياس.
وقال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل لَوْ لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والإنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والاعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون لَوْ بمعناه المشهور، ويكون المقصود الاخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، وما يقال:
من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال: لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له اهـ. ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي هاهنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: وَهُمْ مُعْرِضُونَ وأوجب أن يحمل إما على لازم معناه وهو عدم الانتقاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصي إلخ، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير لَتَوَلَّوْا، وجوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي وهم قوم عادتهم الاعراض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يريد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بحسن الطاعة إِذا دَعاكُمْ أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا لِما يُحْيِيكُمْ أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد إما استعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب على المسبب، وقال القتبي: المراد به

صفحة رقم 177

الشهادة وهو مجاز أيضا، وقال قتادة: القرآن، وقال أبو مسلم: الجنة، وقال غير واحد: هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، وهو استعارة مشهورة ذكرها الأدباء وعلماء المعاني.
وللزمخشري:
لا تعجبن لجهول حلته... فذاك ميت وثوبه كفن
واستدل بالآية على وجوب إجابته صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة، وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، وحكى الروياني أنها لا تجب الصلاة بها، وقيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما
أخرجه الترمذي. والنسائي عن أبي هريرة «أنه صلّى الله عليه وسلّم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي.
قال: ألم تخبر فيما أوحي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] هي السبع المثاني،
وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلّى الله عليه وسلّم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعي أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن وقتادة، فالآية نظير قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦].
وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريد الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب الجبائي.
وقال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما
في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن إكثاره الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ،
ويؤيد هذا التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى.
ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام اقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا فهذا من

صفحة رقم 178
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية