آيات من القرآن الكريم

ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ

ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ وَأَيَّدَهُمْ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ قَوْمٌ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَمْسِمِائَةِ مَلَكٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَفِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ ثِيَابُهُمْ بِيضٌ وَقَاتَلُوا. وَقِيلَ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَعَنْ أَبِي جَهْلٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ أَيْنَ كَانَ الصَّوْتُ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نَرَى شَخْصًا قَالَ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هُمْ غَلَبُونَا لَا أَنْتُمْ،
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَمَا هُوَ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فَوْقَهُ فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ وَقَدْ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا وَقَدْ شُقَّ وَجْهُهُ فَحَدَّثَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّه فَقَالَ صَدَقْتَ. ذَاكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُقَاتِلُوا وَإِنَّمَا كَانُوا يُكَثِّرُونَ السَّوَادَ وَيُثَبِّتُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَّا فَمَلَكٌ وَاحِدٌ كَافٍ فِي إِهْلَاكِ الدُّنْيَا كُلِّهَا فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَهْلَكَ بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَأَهْلَكَ بِلَادَ ثَمُودَ وَقَوْمَ صَالِحٍ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِمْدَادِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ بِالِاسْتِقْصَاءِ/ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا نَزَلُوا لِلْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِرْدَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مَا جَعَلَ اللَّه الْإِرْدَافَ إِلَّا بُشْرَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا جَعَلَ اللَّه الْمُرْدِفِينَ إِلَّا بُشْرَى، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ حَصَلَ بِالْبُشْرَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ قَاعِدًا يَدْعُو، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَاعِدًا عَنْ يَمِينِهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَخَفَقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ نَعِسًا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَمِينِهِ عَلَى فَخْذِ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنَصْرِ اللَّه وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي جِبْرِيلَ يَقْدَمُ الْخَيْلَ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا غَرَضَ مِنْ إِنْزَالِهِمْ إِلَّا حُصُولُ هَذِهِ الْبُشْرَى، وَذَلِكَ يَنْفِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ نَزَلُوا فِي مُوَافَقَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِمَادُهُ عَلَى إِغَاثَةِ اللَّه وَنَصْرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه هُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُقْهَرُ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يُنْزِلُ مِنَ من النصرة فيضعها في موضعها.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١١ الى ١٣]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى مَعْنَى وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى [آل عمران:
١٢٦] / فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرُوا إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي يُغَشِّيكُمُ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَسُكُونِ الْغَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الشِّينِ النُّعاسَ بِالنَّصْبِ. الثَّانِيَةُ: يَغْشَاكُمْ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ النُّعَاسُ بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ

صفحة رقم 460

أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ كَثِيرٍ. الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْبَاقُونَ يُغَشِّيكُمُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ وَضَمِّ الْيَاءِ مِنَ التَّغْشِيَةِ النُّعاسَ بِالنَّصْبِ، أَيْ يُلْبِسَكُمُ النَّوْمَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ أَغْشَى، وَالثَّانِيَةُ مِنْ غَشِيَ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ غَشَّى فَمَنْ قَرَأَ (يَغْشَاكُمْ) فَحُجَّتُهُ قوله: أَمَنَةً نُعاساً يَعْنِي: فَكَمَا أَسْنَدَ الْفِعْلَ هُنَاكَ إِلَى النُّعَاسِ وَالْأَمَنَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النُّعَاسِ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ قَرَأَ يُغَشِّيكُمُ أَوْ يُغَشِّيكُمُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَقَدْ جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: ٩] وَقَالَ: فَغَشَّاها مَا غَشَّى [النَّجْمِ: ٥٤] وَقَالَ: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ [يُونُسَ: ٢٧] وَعَلَى هَذَا فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ فَقَالَ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ وُجُوهَ النَّصْرِ وَهِيَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أَيْ مِنْ قِبَلِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نَوْمٍ وَنُعَاسٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى فَتَخْصِيصُ هَذَا النُّعَاسِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَزِيدِ فَائِدَةٍ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَائِفَ إِذَا خَافَ مِنْ عَدُوِّهِ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ عَلَى نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النَّوْمُ، وَإِذَا نَامَ الْخَائِفُونَ أَمِنُوا، فَصَارَ حُصُولُ النَّوْمِ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِزَالَةِ الْخَوْفِ وَحُصُولِ الْأَمْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ خَافُوا مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. أَحَدُهَا: قِلَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةُ الْكُفَّارِ. وَثَانِيهَا:
الْأُهْبَةُ وَالْآلَةُ وَالْعُدَّةُ لِلْكَافِرِينَ وَقِلَّتُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَثَالِثُهَا: الْعَطَشُ الشَّدِيدُ فَلَوْلَا حُصُولُ هَذَا النُّعَاسِ وَحُصُولُ الِاسْتِرَاحَةِ حَتَّى تَمَكَّنُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الْقِتَالِ لَمَا تَمَّ الظَّفَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ كَوْنِ ذَلِكَ النُّعَاسِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِمْ، أَنَّهُمْ مَا نَامُوا نَوْمًا غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بَلْ كَانَ ذَلِكَ نُعَاسًا يَحْصُلُ لَهُمْ زَوَالُ الأعيان وَالْكَلَالِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ لَعَرَفُوا وُصُولَهُ وَلَقَدَرُوا عَلَى دَفْعِهِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ غَشِيَهُمْ هَذَا النُّعَاسُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَحُصُولُ النُّعَاسِ لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ النُّعَاسَ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُعْجِزِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ خَافُوا بَعْدَ ذَلِكَ النُّعَاسِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْعَلُ جُنْدَ الْإِسْلَامِ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صَيْرُورَةِ قَوْمٍ مِنْهُمْ مَقْتُولِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قُرِئَ يُغَشِّيكُمُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَنَصَبَ النُّعاسَ فَالضَّمِيرُ للَّه عز وجل وأَمَنَةً/ مَفْعُولٌ لَهُ. أَمَّا إِذَا قُرِئَ (يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ) فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُ قَوْلِهِ: أَمَنَةً مَفْعُولًا لَهُ، مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فعلًا لفاعل الفعل المعلل؟
قلنا: قوله: يُغَشِّيكُمُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْنَدًا إِلَى النُّعَاسِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ، ونظير أمن أمنة، حي حَيَاةً، وَنَظِيرُ أَمِنَ أَمَنَةً، رَحِمَ رَحْمَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّه، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ] النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَطَرُ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الْقَوْمَ سبقوا إلى

صفحة رقم 461

مَوْضِعِ الْمَاءِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَطَمِعُوا لِهَذَا السَّبَبِ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْغَلَبَةُ، وَعَطِشَ الْمُؤْمِنُونَ وَخَافُوا، وَأَعْوَزَهُمُ الْمَاءُ لِلشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، وَأَكْثَرُهُمُ احْتَلَمُوا وَأَجْنَبُوا، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ رَمْلًا تَغُوصُ فِيهِ الْأَرْجُلُ وَيَرْتَفِعُ مِنْهُ الْغُبَارُ الْكَثِيرُ، وَكَانَ الْخَوْفُ حَاصِلًا فِي قُلُوبِهِمْ، بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَسَبَبِ كَثْرَةِ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْمَطَرَ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ النُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ، وَعَظُمَتِ النِّعْمَةُ بِهِ مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: زَوَالُ الْعَطَشِ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ حَفَرُوا مَوْضِعًا فِي الرَّمْلِ، فَصَارَ كَالْحَوْضِ الْكَبِيرِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمَاءُ حَتَّى شَرِبُوا مِنْهُ وَتَطَهَّرُوا وَتَزَوَّدُوا.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُمُ اغْتَسَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَزَالَتِ الْجَنَابَةُ عَنْهُمْ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكَادُ يَسْتَقْذِرُ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ جُنُبًا، وَيَغْتَمُّ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاغْتِسَالِ وَيَضْطَرِبُ قَلْبُهُ لِأَجْلِ هَذَا السَّبَبِ فَلَا جَرَمَ عَدَّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ تَمْكِينَهُمْ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا الْمَاءَ ثُمَّ نَامُوا وَاحْتَلَمُوا تَضَاعَفَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ إِنَّ الْمَطَرَ نَزَلَ فَزَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَلِيَّةُ وَالْمِحْنَةُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى زَوَالِ الْعُسْرِ وَحُصُولِ الْيُسْرِ وَالْمَسَرَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاحْتِلَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ، وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ وَخَوَّفَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ زَالَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ،
رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا وَاحْتَلَمَ أَكْثَرُهُمْ، تَمَثَّلَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَقَالَ أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَابَةِ، وَقَدْ عَطِشْتُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ لَمَا غَلَبُوكُمْ عَلَى الْمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَطَرَ حَتَّى جَرَى الْوَادِي وَاتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ حِيَاضًا وَاغْتَسَلُوا وَتَلَبَّدَ الرَّمْلُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رِجْزِ الشَّيْطَانِ سَائِرُ مَا يَدْعُو الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَفَسَادٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى؟
قُلْنَا: قَوْلُهُ: لِيُطَهِّرَكُمْ مَعْنَاهُ لِيُزِيلَ الْجَنَابَةَ عَنْكُمْ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ عَلَى الْجَنَابَةِ لَزِمَ مِنْهُ التَّكْرِيرُ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ فَيُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُطَهِّرَكُمْ حُصُولُ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ إِزَالَةُ جَوْهَرِ الْمَنِيِّ عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حَمْلُهُ عَلَى إِزَالَةِ أَثَرِ الِاحْتِلَامِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الْعَيْنِ عَنِ الْعُضْوِ تَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ أَمَّا تَأْثِيرُهُ فِي إِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ عَنِ الْقَلْبِ فَتَأْثِيرٌ مَجَازِيٌّ وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَنِيَّ رِجْزُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ نَجِسًا مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: ٥].
[في قوله تعالى وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ] النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ بِسَبَبِ نُزُولِ هَذَا الْمَطَرِ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَالَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى الرَّبْطِ فِي اللُّغَةِ الشَّدُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَرابِطُوا [آل عمران: ٢٠٠] وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ، رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ حَبَسَ قَلْبَهُ عَنْ أَنْ يَضْطَرِبَ يُقَالُ: رَجُلٌ رَابِطٌ أَيْ حَابِسٌ. قَالَ الواحدي: ويشبه أن يكون (على) هاهنا صِلَةٌ وَالْمَعْنَى- وَلِيَرْبِطَ قُلُوبَكُمْ بِالنَّصْرِ- وَمَا وَقَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ يُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ صِلَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) تُفِيدُ الِاسْتِعْلَاءَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ امْتَلَأَتْ مِنْ ذَلِكَ الرَّبْطِ حَتَّى كَأَنَّهُ علا عليها وارتفع فوقها.
[في قوله تعالى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ] والنوع الرابع: من النعم المذكورة هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ

صفحة رقم 462

ذَلِكَ الْمَطَرَ لَبَّدَ ذَلِكَ الرَّمْلَ وَصَيَّرَهُ بِحَيْثُ لَا تَغُوصُ أَرْجُلُهُمْ فِيهِ، فَقَدَرُوا عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ كَيْفَ أَرَادُوا، وَلَوْلَا هَذَا الْمَطَرُ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَطَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رَبْطَ قُلُوبِهِمْ أَوْجَبَ ثَبَاتَ أَقْدَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ ضَعِيفًا فَرَّ وَلَمْ يَقِفْ، فَلَمَّا قَوَّى اللَّه تَعَالَى قُلُوبَهُمْ لَا جَرَمَ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبْطِ. وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ حَصَلَ لِلْكَافِرِينَ ضِدُّ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَزَلَ الْكُفَّارُ فِيهِ كَانَ مَوْضِعَ التُّرَابِ وَالْوَحْلِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ عَظُمَ الْوَحْلُ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْمَشْيِ كَيْفَمَا أَرَادُوا فَقَوْلُهُ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يَدُلُّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا] النوع الخامس: من النعم المذكورة هاهنا قَوْلُهُ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ/ الْأَقْدَامَ حَالَ مَا يُوحِي إِلَى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرُوا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأ للمسلمين.
والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْصُرُوهُمْ وَثَبِّتُوهُمْ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِزَالَةُ التَّخْوِيفِ وَالْمَلَائِكَةُ مَا كَانُوا يَخَافُونَ الْكُفَّارَ، وَإِنَّمَا الْخَائِفُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ قَالَ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّثْبِيتِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَرَّفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولُ عَرَّفَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ كَمَا يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ الْمَلَكُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْإِلْهَامِ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَتَشَبَّهُونَ بِصُوَرِ رِجَالٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَكَانُوا يَمُدُّونَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ.
[في قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَهَذَا مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمِيرَ النَّفْسِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ رَبَطَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَوَّاهَا وَأَزَالَ الْخَوْفَ عَنْهَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَلْقَى الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم نعم اللَّه تعالى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَثَبِّتُوا وَقِيلَ: بَلْ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ لِأَجْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعُ مُوجِبَاتِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِإِزَالَةِ الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَيْ فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَعْنِي الْأَطْرَافَ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَنَانُ عِبَارَةٌ عَنْ أَضْعَفِ الْأَعْضَاءِ، فَذَكَرَ الْأَشْرَفَ وَالْأَخَسَّ تَنْبِيهًا عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ إِمَّا الْقَتْلُ، وَهُوَ ضَرْبُ مَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أَوْ قَطْعُ الْبَنَانِ، لِأَنَّ الْأَصَابِعَ هِيَ الْآلَاتُ فِي أَخْذِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ، فَإِذَا قَطَعَ بَنَانَهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْمُحَارَبَةِ.

صفحة رقم 463
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية