
ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقت خروجه لغزوة بدر الكبرى [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ١٤]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

المفردات:
الشَّوْكَةِ: واحدة الشوك، وفيها معنى الحدة والقوة، شبهوا بها الرماح والأسنة. دابِرَ الْكافِرِينَ: آخرهم الذي يكون في دبرهم من ورائهم.
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ استغاث: طلب الغوث والمعونة ليخلص من شدة.
مُمِدُّكُمْ: ناصركم ومعينكم. مُرْدِفِينَ: متبعين بعضهم بعضا، مأخوذ من أردفه: إذا أركبه وراءه. يُغَشِّيكُمُ المراد: يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ: فتور في الأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له. رِجْزَ الشَّيْطانِ الرجز والركس: الشيء المستقذر، والمراد وسوسة الشيطان. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ: ليثبتها ويوطنها على الصبر. الرُّعْبَ: الخوف الكثير. فَوْقَ الْأَعْناقِ المراد: الرءوس. بَنانٍ: هو أطراف الصابع من اليدين والرجلين، والمراد الأيدى والأرجل. اقُّوا
: خالفوا وعادوا إذ هم أصبحوا في شق وناحية والرسول في شق وناحية.
يحسن بمن يريد أن يقف على معنى هذه الآيات أن يلم بتلك القصة.
لما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة بعد أن لاقى ما لاقى، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين، وسمع بأن تجارة لقريش فيها مال كثير آتية من الشام، وعلى رأس العير أبو سفيان مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وأغراهم بالعير قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها فأعجبهم تلقى العير لكثرة المال وقلة الرجال.
أما أبو سفيان قائد العير وحاميها فكان يتجسس على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وعلم أن

محمدا أغرى أصحابه عليه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لهم في أصحابه وقد غير أبو سفيان طريقه وسار محاذيا البحر، ونجا العير والتجارة، أما قريش فجمعوا جموعهم واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا: النجاء. على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا، وخرج أبو جهل على رأس النفير وهم أهل مكة، ثم قيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور، وتعزف القينات ببدر فيتسامع جميع العرب بنا وبخروجنا وأن محمدا لم يصب العير.
أما محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه فلما علم بنجاة العير، وأن قريشا جمعت جموعها ليمنعوا عيرها، استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما- فقالا وأحسنا، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض كما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «١» ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله ثم
قال: «أشيروا علىّ أيها الناس»
وكأنه يريد الأنصار إذ كان يخاف أنهم لا ينصرونه ما دام الحرب في غير المدينة كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ:
قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله فو الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.. إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عيناك، فسر على بركة الله، فسرّ رسول الله لقول سعد.
ثم
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين:
العير القادمة من الشام، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم
. فعلم من هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة لأجل العير وأنه استشار أصحابه في قتال النفير من قريش بعد هذا.

وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما.
أولا: كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو، وهذا ينشأ من طبع الإنسان.
ثانيا: كراهتهم قتال قريش، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم.
وقد شبه الله إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير.
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال:
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله الآية
...
وفي رواية فخرج رسول الله وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية ٤٥].
المعنى:
هذه الحال التي حكم الله فيها بأن الأنفال حكمها لله تعالى وتنفيذها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كره شبانهم ذلك- هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك الله من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب.
يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد نجا العير، فلم يبق إلا النفير، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا، وقد كان خروجهم لتلقى العير.

لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا، ولكن الله وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف:
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية ٢٤٩]، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله لله.
واذكروا وقت أن وعدكم الله إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال.
ويريد الله لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول، وتكون الدائرة على المشركين، ويحق الله الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم.
فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله والله يريد معالى الأمور، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة.
ويريد الله هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان، ولو كره المجرمون، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم.
اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين: أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك كما روى، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون الله ويستغيثون.
واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء

النصر من الله: والله- سبحانه- هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك، وأن لله سننا مع خلقه لا تتخلف، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال، استغاث الله ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر، وقد استغاث الصحابة كما استغاث، ولقد استجاب الله الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآيتان ١٢٤- ١٢٥] وما جعل الله ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم، وأن الله معكم، ولتسكن قلوبكم، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين.
واعلموا أن النصر من عند الله لا من عند غيره أبدا، إن الله عزيز لا يغالب، حكيم في كل صنع.
وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. والله أعلم، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا.
واذكروا إذ ألقى الله عليكم النعاس حتى غشيكم كما
روى البيهقي عن على- كرم الله وجهه- قال: «ما كان فينا فارس إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى تحت شجرة حتى أصبح»
ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر.
ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء، وقد احتلم بعضهم ليلا، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال: لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل الله مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم،