المؤمنين، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً، وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ٢١٦].
٦- دلّ خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلقى العير قبل معركة بدر على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال، والله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين: العير أو النفير.
الإمداد بالملائكة في معركة بدر وإلقاء النعاس وإنزال المطر
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١٤]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الإعراب:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من إِذْ في قوله: إِذْ يَعِدُكُمُ. بِأَلْفٍ منصوب بممدكم.
وقرئ «بآلاف» جمع ألف لأن فعلا يجمع على أفعل، نحو فلس وأفلس، وكلب وأكلب، ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران ٣/ ١٢٥] وآلف: جمع ألف لما دون العشرة، ويقع على خمسة آلاف من الملائكة صفة للألف. مُرْدِفِينَ بالكسر: وصف لألف، على أنهم أردفوا غيرهم، أي أردف كل ملك ملكا. مُرْدِفِينَ بالفتح مع التخفيف: إما منصوب على الحال من الكاف والميم في مُمِدُّكُمْ وإما في موضع جر لأنه صفة لألف، أي متبعين بألف.
وقرئ مردفين.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بكلمة النَّصْرُ أو بإضمار: اذكر. والفاعل هو الله عز وجل، والنُّعاسَ: مفعول به وأَمَنَةً مفعول لأجله، والمعنى إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم. وأَمَنَةً صفة لكلمة أَمَنَةً أي أمنة حاصلة لكم من الله عز وجل.
إِذْ يُوحِي بدل ثالث من: إِذْ يَعِدُكُمُ، ويجوز أن ينتصب بيثبت. وأَنِّي مَعَكُمْ: مفعول يوحي.
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
لِكَ
: مبتدأ، أو خبر مبتدأ. وتقديره: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك.
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلكم. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلِكُمْ وتقديره: والأمر أن للكافرين عذاب النار.
البلاغة:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أتى بصيغة المضارع عن الماضي لاستحضار الصورة في الذهن.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تقديم الجار والمجرور على المفعول به، للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر.
المفردات اللغوية:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم. أَنِّي بأني. مُمِدُّكُمْ معينكم. مُرْدِفِينَ متتابعين، يردف بعضهم بعضا، مأخوذ من الإرداف: وهو الركوب وراءه، وعدهم أولا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، ثم صارت ثلاثة، ثم خمسة، كما ذكر في آل عمران [١٢٤، ١٢٥].
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد. وَلِتَطْمَئِنَّ تسكن بعد ذلك الاضطراب والخوف الذي عرض لكم إجمالا. عَزِيزٌ غالب على أمره. حَكِيمٌ يضع الشيء في موضعه.
يُغَشِّيكُمُ يجعله عليكم كالغطاء، من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ فتور في الحواس والأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له، وهو يضعف الإدارك، والنوم يزيله. أَمَنَةً أمنا مما حصل لكم من الخوف. أَمَنَةً من الله تعالى.
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث والجنابات. رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته لكم بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم ظمأى محدثين، والمشركون على الماء. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يحبس، أي ليثبت القلوب ويحملها على الصبر واليقين. وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أن تسوخ في الرمل.
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالإعانة والتبشير. الرُّعْبَ الخوف الشديد. فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس. كُلَّ بَنانٍ أي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. لِكَ
العذاب الواقع بهم. أَنَّهُمْ شَاقُّوا
خالفوا وعادوا، وسميت العداوة مشاقة لأنها تجعل كل طرف في شق أو جانب غير الآخر. ذلِكُمْ العذاب. فَذُوقُوهُ أيها الكافرون في الدنيا. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة.
سبب النزول:
روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف أو (وبضعة عشر رجلا)، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه (أو فألقاه على منكبيه) ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
فلما كان يومئذ، التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا،
وأسر منهم سبعون رجلا «١».
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد»
فأخذ أبو بكر بيده، فقال:
حسبك، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٥].
فعلى هذا كانت الاستغاثة من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو المشهور. ولما اصطف القوم، قال أبو جهل: «اللهم، أولانا بالحق فانصره» ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
وهناك قول ثان أن الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن خوفهم كان أشد من خوف الرسول.
والأقرب أنه دعا عليه الصلاة والسّلام وتضرع، على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه، تابعين له في الدعاء في أنفسهم، فنقل دعاء الرسول ولم ينقل دعاء القوم.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها المؤمنون وقت استغاثتكم ربكم، لما علمتم أنه لا بد من القتال، داعين: «إي ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا». والمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم الذي أجاب دعاءهم، ليشكروا، وليعلموا مدى فضل الله عليهم، ورحمته بهم.
فاستجاب لكم، أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكة، مردفين أي يردف بعضهم بعضا ويتبعه، فيتقدم بعضهم ويعقبه الآخر، وهكذا تتابع الملائكة، وهذه هي الطليعة، ثم تبعها آخرون، فصاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، كما قال تعالى في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [١٢٤] ثم قال: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [١٢٥].
وما جعل الله إرسال الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، ولتسكن به قلوبكم من الاضطراب الذي عرض لكم، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم.
وليس النصر الحقيقي في الحروب إلا من عند الله، دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب الظاهرية، إن الله عزيز لا يغلب، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، كما قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد ٤٧/ ٤].
وهل قاتلت الملائكة بالفعل يوم بدر؟ يرى بعضهم أن الملائكة لم يقاتلوا، وإنما كان لهم تقوية معنوية؟ فكانوا يكثرون السواد، ويثبّتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقد أخذ بهذا الرأي الشيخ محمد عبده ومدرسته.
وقال جمهور العلماء: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت.
وهذا هو المشهور، المروي عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة، وميكائيل في خمسمائة مجنّبة.
وهذا هو الراجح المؤيد في السنة النبوية بالروايات الصحيحة، روى ابن جرير ومسلم عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم. ورويت أحاديث أخرى. ولولا الأحاديث لكان للرأي الأول اعتبار واضح.
وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع، ولا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
ومن المتفق عليه أن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله وعدهم بالنصر وعدا معلقا على الصبر والتقوى، فلم يحققوا هذا الشرط.
وقتال الملائكة مع المؤمنين لا يقلل من أهمية قيام المؤمنين بواجبهم في القتال على أتم وجه وأكمله، فإنهم قاتلوا قتالا مستميتا استحقوا به كل تقدير، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر- لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال:
اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
وكان وقع المعركة على قريش شديدا جدا بسبب ما لا قوة من قتل زعمائهم بأسياف المسلمين ورماحهم وعلى يد شبانهم، مع أنهم الفرسان المشاهير، فكان هذا هو عقاب كفرهم وعنادهم، والله تعالى يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور (الريح الصرصر العاتية)، وثمود بالصيحة (الصوت الشديد المهلك) وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (من جهنم) وقوم شعيب بيوم الظلة، وفرعون وقومه بالغرق في اليم.
فالنعمة الأولى التي يذكّر الله بها المسلمين يوم بدر: إمدادهم بالملائكة، ثم ذكّرهم بنعمتين أخريين هما إلقاء النعاس وإنزال المطر، فقال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ.. أي اذكروا ما أنعم الله عليكم من إلقاء النعاس عليكم حتى غشيكم كالغطاء، أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من رؤية كثرة عدوهم وقلة عددهم، وأراحهم من عناء السير، فمن غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، ويرتاح ويجدد نشاطه وقوته،
روى البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح».
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيبا وفي حكم المعجز الخارق للعادة، مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمّ، ولكن الله ربط جأشهم.
قال الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما- أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني- أن أمّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر.
وكذلك فعل الله تعالى بهم فألقى النعاس عليهم يوم أحد، كما قال تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً، يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران ٣/ ١٥٤].
وأنزل الله عليكم أيضا مطرا من السماء ليطهركم به من الحدث والجنابة، ويذهب عنكم وسوسة الشيطان إليكم وتخويفكم من العطش، وقيل: يذهب عنكم الجنابة التي أصابت بعضكم لأنها من تخييله، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ، وهو
شجاعة الظاهر، أي أن إنزال المطر حقق أربع فوائد: التطهير الحسي بالنظافة والشرعي بالغسل من الجنابة والوضوء، وإذهاب وسوسة الشيطان، والربط على القلوب أي توطين النفس على الصبر، وتثبيت الأقدام به على الرمال.
وظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وهي ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس.
والسبب في إنزال المطر: ما روى ابن المنذر من طريق ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا، وأنكم أولياء، وتصلّون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهروا، وثبتت أقدامهم (على الرمل المتلبد) وذهبت وسوسته. والضمير في بِهِ للماء أو المطر.
وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء المتجمع من ماء المطر، فنزلوا عليه، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، وبني لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة.
هذا ما دل عليه الخبر وهو
أن المشركين سبقوا إلى التجمع على الماء يوم بدر، والمعروف كما ذكر ابن إسحاق في سيرته وتبعه ابن هشام في سيرته: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك، أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:
بل هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القلب
(الآبار غير المبنية) ثم نبني عليها حوضا، فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي، وفعلوا ذلك.
قال ابن كثير: وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء، وكان الوادي دهسا «١»، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.
وأرى أن النص القرآني يوافق هذه الرواية التي استحسنها ابن كثير وسار عليها جمهور المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي وغيرهم. وذكر البيضاوي رواية تؤيد ذلك فقال: روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ في الأقدام على غير ماء، وناموا، فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمطروا ليلا، حتى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته (جانبه) وسقوا الرّكاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت الوسوسة. ثم ذكر البيضاوي معنى قوله: لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي بالوثوق بلطف الله بهم، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
والأصح الذي ذكره القرطبي عن ابن إسحاق في سيرته وغيره، وهو الذي يوفق به بين الروايات: أن الأحوال التي صاحبت نزول المطر كانت قبل وصولهم إلى بدر «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٧٣.
ومن النعم المذكورة أيضا على المؤمنين في بدر نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهي إلهام الله الملائكة أنه معهم معية إعانة ونصر وتأييد، فقال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ... أي اذكروا إذ يوحي الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم حينما أرسلهم ردءا للمسلمين، أو يوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، قال الرازي: وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون «١».
والمراد بالمعية: معية الإعانة والنصر والتأييد في مواقف القتال الشديدة.
فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكّروهم وعد الله أنه ناصر رسوله والمؤمنين، والله لا يخلف الميعاد.
وقيل: إن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارف المؤمنين، وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر. أخرج البيهقي في الدلائل: أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول: أبشروا، فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كرّوا عليهم.
وقيل بوجه ثالث في معنى التثبيت وهو منقول عن الزجاج: للملك قوة إلقاء الخير، وهو الإلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر، وهو الوسوسة.
ثم ذكر الله تعالى المراد بقوله: أَنِّي مَعَكُمْ: وهو أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فمن أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين زرع الخوف والرعب في نفوس الكفار.
فاضربوا رؤوسهم التي هي فوق الأعناق واقطعوها، واحتزوا الرقاب وقطّعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ذات البنان. والبنان:
الأصابع، والمراد الأطراف. والمعنى أن الله أمرهم أن يضربوا المقاتل وغير المقاتل، ويجمعوا عليهم النوعين معا.
ثم بيّن الله تعالى سبب تأييده ونصره المؤمنين، فقال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا...
أي أن ذلك المذكور من النصر والتأييد للنبي والمؤمنين بسبب أن المشركين شاقوا الله ورسوله، أي عادوهما وخالفوهما، فساروا في شق أو جانب وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق آخر.
مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
، أي ومن يخالف أمر الله ورسوله ويعاديهما فإن له عدا الهزيمة والخزي في الدنيا العذاب الشديد في الآخرة.
ذلكم العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون المشاقون الله ورسوله في الدنيا من خزي وذل وهزيمة ونكال وما تبع ذلك من قتل وأسر، فذوقوه عاجلا، ولكم في الآخرة عذاب جهنم إن أصررتم على الكفر.
وعبر بالذوق الذي هو تعرف طعم اليسير لمعرفة حال الكثير عن تعجيل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا، فكان المعجل كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعدّ لهم في الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور ثلاثة: تعداد النعم، تعليم كيفية القتل، عقاب مشاقة الله والرسول أي معاداتهما.
أما النعم المذكورة التي أراد الله التذكير بها في معركة بدر فهي سبع:
الأولى- النصر عند الاستغاثة، وذلك بإمدادهم بأعيان الملائكة للمساعدة في القتال. ولا تعارض في تعداد الملائكة بين هذه السورة التي ذكر فيها ألف من الملائكة، وسورة آل عمران التي ذكر فيها ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف لأنه تعالى
جعل الإمداد متتابعا بقوله مُرْدِفِينَ فأمدهم أولا بألف ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة حينما تذرعوا بالصبر والتقوى.
الثانية- إلقاء النعاس أي النوم عليهم ليلة اليوم الذي حدث فيه القتال.
الثالثة- إنزال المطر من السماء لتحقيق الطهارة الحسية بالنظافة والوضوء والغسل من الجنابة، والطهارة المعنوية بإذهاب وساوس الشيطان.
الرابعة- الربط على القلوب أي تقويتها وإزالة الخوف والفزع عنهم، وإفراغ الصبر عليهم وشد أزرهم لمجالدة الأعداء وقتالهم.
الخامسة- تثبيت الأقدام على الرمال التي تلبدت بالمطر. ودل هذا بدلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
السادسة- الإيحاء إلى الملائكة أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فانصروهم وثبتوهم.
السابعة- إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين. وهذا من النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين.
وأما تعليم كيفية القتل: فهو أنه تعالى أمر المؤمنين بقتل الكفار في المقاتل بضرب الهامات والرؤوس التي هي محمولة فوق الأعناق، وبضربهم في غير المقاتل بتقطيع الأيدي والأرجل ذات البنان لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
وأما عقاب مشاقة الله والرسول فهو الخزي والنكال والهزيمة في الدنيا، والعذاب الشديد في نار جهنم في القيامة. والمقصود من إيراد هذا العقاب الزجر عن الكفر والتهديد عليه وتوبيخ الكافرين، فالعقاب على ذلك نوعان: عاجل في الدنيا، ومؤجل في الآخرة.
وأما فضل أهل بدر فليس لذواتهم وإنما لأفعالهم،
قال مالك: بلغني أن
جبريل عليه السّلام قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: خيارنا، فقال: إنهم كذلك فينا. وذلك لجهادهم، وأفضل الجهاد يوم بدر لأن بناء الإسلام كان عليه.
وأوجب الإسلام دفن جثث القتلى ولو كانوا من الأعداء،
فقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بدفن قتلى المشركين السبعين في بدر في القليب وهي البئر العادية القديمة الكائنة في البراري.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فسمع عمر قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون وأني يجيبون وقد جيّفوا «١» ؟ قال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا».
ثم أمر بهم، فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر.
قال القرطبي: وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه: إنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث، أخرجه الصحيح «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٧٧.