اللغَة: ﴿الأنفال﴾ الغنائم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة وسميت الغنائم به لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان، وتسمى صلاة التطوع نفلاً، وولد الولد نافلة لهذا المعنى قال لبيد:
إنَّ تقوى ربّنا خير نفل | وبإذن اللهِ ريثي والعجل |
﴿زَحْفاً﴾ الزحف: الدنو قليلاً مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى سعلى أليته قليلاً قليلاً ثم سمي به الجيش الكثير العدد لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف زحفاً ﴿مُتَحَيِّزاً﴾ منضماً يقال: تحيّز أي صفحة رقم 457
انضم واجتمع إِلى غيره ﴿بَآءَ﴾ رجع ﴿مُوهِنُ﴾ مضعف ﴿تَسْتَفْتِحُواْ﴾ استفتح: أي طلب الفتح والنصرة على عدوه.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال: «لما كان يوم بدر قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإِننا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إِلينا فأبوا واختصموا إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ الآية فقسَّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم بينهم بالسوية».
ب - روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين» فنزلت ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي؟ وكيف تقسم؟ ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾ أي قل لهم: الحكم فيها لله والرسول لا لكم ﴿فاتقوا الله﴾ أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله، طاعة رسوله، وإِصلاح ذات البين ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله ﴿إِنَّمَا المؤمنون﴾ أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه ﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي إذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره، استعظاماً لشأنه، وتهيباً منه جلَّ وعلا ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن وازداد تصديقهم ويقينهم بالله ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه قال في البحر: أخبر عنهم باسم الموصول بثلاث مقامات عظيمة وهي: مقام الخوف، ومقام الزيادة في الإِيمان، ومقام التوكل على الرحمن ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات ﴿أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ أي المتصفون بما
ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم منازل رفيعة في الجنة ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ الكاف يقتضي مشبّهاً قال ابن عطية: شهبت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، والمعنى: حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب وقال الطبري: المعنى: كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعدما تَبيَّن، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما تبيّنوه هو القتال ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾ أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان، وكان جدالهم هو قولهم: ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ قال البيضاوي: أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾ أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إحدى الفرقتين أنها لكم غنية إِما العير أو النفير ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ﴾ أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش قال المفسرون:
«روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجاة عظيمة برآسة أبي سفيان، ونزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد: إِن الله وعدكم إِحدى الطائفتين: إِما العير وإِما قريشاً، فاستشار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه فاختاروا العير لخفة الحرب وكثرة الغنيمة، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل: يا أهل مكة النجاء النجاءَ، عيركُم أموالكم إِن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج المشركون على كل صعب وذلول ومعهم أبو جهل حتى وصلوا بدراً، ونجت القافلة فأخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه وقال لهم: إِن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله: عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله فقام سعد بن عبادة فقال: امض بنا لما شئت فإِنا متبعوك، وقام سعد بن معاذ فقال: والذي بعثك بالحق لو خضت بنا البحر لخضناه معك فسرْ بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لأصحابه: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إِلى مصارع القوم»
﴿وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم قال في البحر: والمعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة، وسلامة الأحوال، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، وإِعلاء الحق، والفوز في الدارين، وشتّان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلانهم، فنصركم
وهزمهم، وأذلهم وأعزكم ﴿لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل﴾ متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إظهار الإِسلام وإِبطال الكفر ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾ أي ولو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين، روي أن سول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية ﴿فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة﴾ أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة ﴿مُرْدِفِينَ﴾ أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً قال المفسرون: ورد أن جبريل نزل بخمسائة وقاتل بها في يسار الجيش، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى﴾ أي وما جعل إمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ أي يلقي عليكم النوم أمناً من عند سبحانه وتعالى، وهذه معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
«ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح» قال ابن كثير: وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً﴾ تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر ﴿لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ أي من الأحداث والجنايات ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان﴾ أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش، قال البيضاوي: روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة ﴿وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ﴾ أي يقوّيها بالثقة بنصر الله ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام﴾ أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل قال الطبري: ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها {إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر ﴿فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ﴾ أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾ أي اضربوهم على الأعناق كقوله ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤] وقيل: المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق ﴿واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ أي اضربوهم على أطراف الأصابع قال في التسهيل: وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ذلك العذاب الفظيع واقع عيلهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي ومن يخالف أمر الله رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له ﴿ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار﴾ أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً﴾ أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار﴾ أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً ﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب «الحرب خدعة» ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ﴾ أي منضماً إلى جماعة المسلمين يستنجد بهم ﴿فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ أي فقد رجع بسخطٍ عظيم ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس المرجع والمآل ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير قال ابن عباس: أَخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين ﴿ولكن الله رمى﴾ أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً﴾ أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأحوالهم ﴿ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين﴾ أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر، وأقطع للرحم، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ فكان
صفحة رقم 461
أبو جهل هو المستفتح ﴿وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم ﴿وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ﴾ أي وإِن تعودوا الحربة وقتاله نعد لنصره عليكم ﴿وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار ﴿وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾ أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد ﴿ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر ﴿وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين ﴿وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ أي تسمعون القرآن والمواعظ ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم، فسماعهم كلا سماعٍ لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض ﴿الصم البكم﴾ أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به ﴿الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد، وتوجهوا لقتال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي جهل، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾ أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم إِيمان الكافرين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أولائك هُمُ المؤمنون﴾ الإِشارة بالبعيد عن القريب لعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف.
٢ - ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ استعار الدرجات للمراتب الرفيعة والمنازل العالية في الجنة.
٣ - ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت﴾ التشبيه هنا تمثيلي.
٤ - ﴿أَن يُحِقَّ الحَقَّ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٥ - ﴿ذَاتِ الشوكة﴾ استعيرت الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدّة بينهما.
٦ - ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ كناية عن استئصالهم بالهلاك.
٧ - ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ صيغة المضارع لاستحضار صورتها الغريبة في الذهن.
٨ - ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً﴾ تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر.
٩ - ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ الخطاب للمشركين على سبيل التهكم كقوله ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
١٠ - ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ شبّه الكفار بالبهائم بل جعلهم شراً منها، وذلك منتهى البلاغة ونهاية الإِعجاز، إِذ أن الكافر لا يسمع الحق والبهائم لا تسمع، ولا ينطق به والبهائم لا تنطق، ويأكل والبهائم تأكل، بقي أنه يضر والبهائم لا تضرُّ فكيف لا يكون شراً منها؟
تنبيه: ذكر تعالى في هذه السورة أنه أمدَّ المؤمنين بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدَّهم بثلاثة آلاف، ولا تعارض بن الآيات فإِنه تعالى ذكر هنا لفظ ﴿مُرْدِفِينَ﴾ ومعناه متتابعين فأمدهم أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف والله الموفق.