والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى قولته ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وقيل بالعكس فهما كلمتان وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة. وقال أبو رزين الْأُولى حالة كفره وعصيانه والْآخِرَةِ قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال، وجعل ذلك النكال الإغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به لَعِبْرَةً عظيمة لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل. وقوله تعالى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بيّن كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: ٨٩، النازعات: ١٣] ونصب خَلْقاً على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم أَشَدُّ أي أشق وأصعب في تقديركم أَمِ السَّماءُ أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: بَناها إلخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أَمِ السَّماءُ
وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى. وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا، وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو. ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك، والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلّا أن يمنع عنه مانع فَسَوَّاها أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها، ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع. وقيل: جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا وبعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير. وقالوا: وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها
تتميمها بما يتم به كمالها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بيّن في علم الهيئة من قولهم: سوّى أمره أي أصلحه أو من قولهم: استوت الفاكهة إذا نضجت، وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما، يقال: غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال: ظلم وأظلمه، ويقال أيضا: أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش. قال الأعشى:
عقرت لهم ناقتي موهنا... فليلهم مدلهم غطش
وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أَغْطَشَ أظلم بلغة أنمار وأشعر وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها، والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمّي به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة. وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب، وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها. وقيل: إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣، يس: ٤٠] وإن الفلك ليس إلّا مجرى الكوكب في السماء، وقيل: أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق، وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه. وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر. وقيل إضافتهما إليها باعتبار أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوي وتعقب بأنهم قالوا: إن ظل الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل، وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط، وانتصاب الْأَرْضَ بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى. ومعنى قوله تعالى دَحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها... فهم قطانها حتى التنادي
وقيل: دَحاها سواها. وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها... بأيد وأرسى عليها الجبالا
والأكثرون على الأول. وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين. أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له: آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ قال قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: ٩- ١١] وقوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قال: خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله سبحانه دَحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا. وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا خلق مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم. وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السماوات، ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات. وأجيب بأن خَلَقَ في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فأولا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل، ومن الناس من حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض. وقال عصام الدين إن بَعْدَ ذلِكَ هنا كما في قوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: ١٣] يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت في السماء. والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان، وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة، وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الإشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها، وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ فقال ابن الطاشكبري: نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة، وأن البعدية هاهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] وكذا في قوله سبحانه وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وقالوا: يؤيد ما ذكر قوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] فإن الظاهر أن المراد ائْتِيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه: أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع
صفحة رقم 234
سماوات في يومين، وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على
خلق السماوات والعكس هاهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء. والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى. وفي الكشف أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلّا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها. والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من إطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الْأَرْضَ منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت، وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثُمَّ بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن إنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: ٣٠] الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة، وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى. والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت. وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام.
وقوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بأن فجّر منها عيونا وأجرى أنهارا وَمَرْعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان، وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن. وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه
وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن العاطف. وقوله تعالى وَالْجِبالَ منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه أَرْساها أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلّا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول. وقرأ عيسى برفع «الأرض» والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع «الأرض» «والجبال» وهو على ما قيل على الابتداء، وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بَناها بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك. وقيل: إن جملة قوله تعالى وَالْأَرْضَ إلخ على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء، وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى. وجوز عطف «الأرض» بالرفع على «السماء» من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دَحاها إلخ وزان قوله تعالى بَناها إلخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء. وقوله تعالى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره، وقيل: مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده. وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلّا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث. وقوله سبحانه فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى إلخ شروع في بيان معادهم إثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل مَتاعاً إلخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ المتاع، والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل: جرى الوادي فطمّ على القرى، وجاء السيل فطمّ الركيّ. وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل، فوصفها «بالكبرى» للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا، وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك. وأنت تعلم أن الطَّامَّةُ الْكُبْرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس
وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بدل كل أو بعض من إذا جاءت على ما قيل، وقيل: بدل من الطَّامَّةُ الْكُبْرى فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين
وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة إلا يخفى تعسفه. وقيل: ظرف ل جاءَتِ وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسَعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوّنا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: ٦] ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر، وجوّز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءَتِ وقيل على يَتَذَكَّرُ وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه، والموصول بعد مغن عن العائد، وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل. ومعنى بُرِّزَتِ أظهرت إظهارا بيّنا لا يخفى على أحد لِمَنْ يَرى كائنا من كان يروي أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء.
وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار «وبرزت» مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: ١٢] وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها، ويجوز أن تكون خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: ١٢] أي لمن تراه من الكفار. وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو «وبرزت» مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغى إلخ جواب «إذا» على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: ٣٨، طه: ١٢٣] الآية.
وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع فأكرمه. واختاره أبو حيان وقيل: جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف. وقوله سبحانه فَأَمَّا إلخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلّا زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير، وقيل: هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤون قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر وَآثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فَإِنَّ الْجَحِيمَ التي ذكر شأنها هِيَ الْمَأْوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن أل في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا، وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري. وهي إما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مَقامَ مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله
تعالى أَكْرِمِي مَثْواهُ [يوسف: ٢١]. وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها. وعن ابن عباس ومقاتل إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربه سبحانه فيخاف فيتركها، وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه. قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه.
وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي:
فخالف هواها واعصها إن من يطع | هوى نفسه تنزع به شر منزع |
ومن يطع النفس اللجوجة ترده | وترم به في مصرع أي مصرع |
وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزير بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطا في دمه قال: «عند الله تعالى احتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال: ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.
وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها، فالمرسى مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها، وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل. وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله: كما أن إلخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة يجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل. وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلّا قليلا، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: ٤٨، النمل: ٧١، سبأ: ٢٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلّا عشية إلخ. وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث صفحة رقم 238
إنك إذا قلت «لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحى» احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر، أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه. وقال الطيبي: إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا، فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال: إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل: تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلّا تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب، هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فِيمَ ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى فِيمَ إلخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك إلخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت إلخ. والجواب عليه قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ولا يخفى ضعف ذلك.
وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها
وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فكف عنها
وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلّى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر.
وقوله تعالى فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: ١٨٧] فالاستفهام للإنكار وفِيمَ خبر مقدم وأَنْتَ مبتدأ مؤخر ومِنْ ذِكْراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم، فمعنى قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك؟ وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها. وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلّى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن
ليس له عليه الصلاة والسلام ان يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلّى الله عليه وسلم ذكراها لهم بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها، فالمعنى إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره، وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني»
والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلّا منذر لا معلم بالوقت مبين له. وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى، أي ما أنت منذر إلّا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه قيل عليه إن من يخشى مَنْ صلة مُنْذِرُ ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل. والظاهر على الثاني أن إِنَّما لمجرد التأكيد زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب حَفِيٌّ عَنْها يرده إذ المراد أنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه، وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلّى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد. وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذّاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية «منذر» بالتنوين والإعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار المشابه والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الإعمال والإعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال، وإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة كقولك: هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة «يخشى» ولا ينافي أنه صلّى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله ويجوز فيه الإعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم.