آيات من القرآن الكريم

أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً
ﮢﮣ ﮥﮦ ﮨﮩ ﮫﮬ ﮮﮯ ﮱﯓﯔ ﯖﯗ ﯙﯚﯛ ﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥ ﭧﭨ ﭪﭫﭬ ﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺ

سورة النّازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره. وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد، أو
أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه
وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة. وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات. ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب

صفحة رقم 223

بشدة وقد أردف بقوله تعالى غَرْقاً وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد. وقيل: هو نوع، والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار. وقال ابن مسعود: تنزع الملائكة روح الكفار من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا عملها في الكفار. والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة. قال بعض السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج إن النشط حل العقدة برفق ويقال كما في البحر: أنشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت، والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت النَّاشِطاتِ من النشط بهذا المعنى كان أوفق للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. ولو جعلت النَّازِعاتِ ملائكة العذاب والنَّاشِطاتِ ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً على المصدرية كانتصاب غَرْقاً وأما انتصاب أَمْراً فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل. وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم. وجوز أن يكون غَرْقاً مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد.
وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين. هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا. وظاهر تفسير النَّاشِطاتِ أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسَّابِحاتِ دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيقته ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول. وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات، وأيّا ما كان فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنَّازِعاتِ إلخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة. وقيل: إقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدّا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة:

أرى همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب

صفحة رقم 224

سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة، وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل النَّازِعاتِ على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السَّابِحاتِ عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل: إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها حيث ألفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام إنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه. وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل: وليس بحديث كما توهم «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم، وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم. وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا وقبل أن تموتوا. وتفسير النَّازِعاتِ بالنفوس مروي عن السدّي إلّا أنه قال: هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والنَّاشِطاتِ بها عن ابن عباس أيضا إلّا أنه قال:
هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلّا أنه قال: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل: إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة. وقيل: إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها. وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النَّازِعاتِ على الغزاة مروي عن عطاء إلّا أنه قال: هي النازعات بالقسي وغيرها، وقيل: بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدّا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب. وحمل السَّابِحاتِ على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة، ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان. ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل «المدبرات» على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا. نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبرىء

صفحة رقم 225

سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل، وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له. ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما. ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى. ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في الباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل. وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال «فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية، فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان: الأول شرح قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة. وثانيهما فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً
وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلّي والثاني شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ولما كان التدبير لا يتم إلّا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى. وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام. ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النَّازِعاتِ المنايا تنزع النفوس. وحكى يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلأ. وعن الأول تفسير النَّاشِطاتِ بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر. وعنه أيضا تفسير السَّابِحاتِ بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر. وعن بعض تفسير «السابقات»
بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير «المدبرات» بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر النزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم.
وقوله سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ منصوب بالجواب المضمر والمراد ب الرَّاجِفَةُ الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على أن الإسناد إليها مجازي لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب

صفحة رقم 226

الرجف راجفا. وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس وهي النفخة الأولى. وقيل: المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: ١٤] وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي الواقفة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية. وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتشر بعد والجملة حال من الرَّاجِفَةُ مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية، وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين. وقيل: يَوْمَ تَرْجُفُ منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت، يقال: وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا. وروي عن ابن عباس أن واجِفَةٌ بمعنى خائفة بلغة همدان. وعن السدّي زائلة عن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يَوْمَئِذٍ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف، وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قُلُوبٌ على الابتداء ويَوْمَئِذٍ متعلق ب واجِفَةٌ وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [القيامة: ٢٢- ٢٤]. وجاز الابتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص. نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في: شرّ أهرّ ذا ناب وقيل: واجِفَةٌ صفة قُلُوبٌ مصححة للابتداء بها.
وقوله تعالى: أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكنى بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك، وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب. وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد: إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه، وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول فجعل وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام، وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى. وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على اطّراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلّة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع إلباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الإنصاف. وزعم ابن

صفحة رقم 227

عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى يَوْمَئِذٍ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال: نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو:
أمرّ على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وقيل إن الجواب تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ويَوْمَ منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك. وقال محمد بن عليّ الترمذي: إن جواب القسم إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا.
وقوله تعالى يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره. وقيل إنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبيّن ذلّهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك. والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيّا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذا حفر أو الإسناد مجازي أو الكلام على الاستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا. وذلك نظير ما ذكروا في عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: ٧] ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:

أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار
يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا.
ومنه المثل: النقد عند الحافرة، فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات. وقيل الْحافِرَةِ جمع الحافر بمعنى القدم أي يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن أداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر. وعن مجاهد الْحافِرَةِ القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا. وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «في الحفرة» بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال في أسنانها وتغيرت، ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً تأكيدا لإنكار البعث بذكر حالة منافية له. والعامل في إِذا مضمر يدل عليه «مردودون» أي: أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونه أبعد شيء من الحياة. وقرأ نافع وابن عامر «إذا كنا» بإسقاط همزة الاستفهام، فقيل: يكون خبر استهزاء بعد الاستفهام الإنكاري، واستظهر أنه متعلق بمردودون. وقرأ

صفحة رقم 228

عمر وأبيّ وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر «ناخرة» بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلي وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى أغلبي أو إذا اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم فاعل وفعل صفة مشبهة. نعم تلك القراءة أوفق برؤوس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم. وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى. وقال عمرو بن العلاء: النخرة التي قد بليت، والناخرة التي لم تنخر بعد. ونقل اتحاد المعنى عن الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين. وقوله تعالى قالُوا حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطّراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبىء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء وقال الحسن: خاسِرَةٌ كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها، وقيل: هي راجع إلى الرادفة. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:

وفيها لحم ساهرة وبحر وما فاهوا به أبدا مقيم
وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا لأقطارها قد جبتها متلثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز، وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول أنها وجه الأرض، والثاني أنها أرض القيامة ثم قال:
وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر:
تحرك يقظان التراب ونائمه وروى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز وجل حينئذ، وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل: وهي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس. وقال أبو العالية وسفيان: أرض قريبة من بيت المقدس، وقيل: الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم، وقال قتادة: وهي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها. وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم

صفحة رقم 229

من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم. ومعنى هَلْ أَتاكَ أن اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام ترغيب له صلّى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل: هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين. وقوله تعالى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا. وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذْهَبْ إلخ. وقيل:
هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل: هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به فَقُلْ بعد ما أتيته هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإِلى أَنْ تَزَكَّى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر:

فهل لكم فيها إليّ فإنني بصير بما أعيا النطاسي حذيما
قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما يتعدى بها، ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضا وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتَزَكَّى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمر بخلاف «تزّكّى» بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أرشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه فَتَخْشى إذ الخشية لا تكون إلّا بعد معرفته قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل».
وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية. والفاء في قوله تعالى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه. واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال:
إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذْهَبْ يدل عليه فهو على نحو اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ والإراءة إما بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا [طه: ٥٦] بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها، وعلى ما روي عن مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: ٤٢] باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها، وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده، ويزيده بعدا ترتيب حشر السحر بعد فإنه لم يكن إلّا على إراءة تينك الآيتين وإدباره

صفحة رقم 230

عن العمل بمقتضاهما وإما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. وزعم غلاة الشيعة أن الآية الكبرى عليّ كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل فَكَذَّبَ بموسى عليه السلام وسمى معجزته سحرا وَعَصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط، وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى عصاه من الذم كما لا يخفى.
ثُمَّ أَدْبَرَ تولى عن الطاعة يَسْعى أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه يقتضي زمانا طويلا، وجوز أن يكون الإدبار على حقيقته أي ثم انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك، وقيل: أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه. وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، يقول فرعون:
أنشدك بالذي أرسلك إلّا أخذته فأخذه فعاد عصى، وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته هاهنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل: أريد بقوله سبحانه ثُمَّ أَدْبَرَ ثم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تلميحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا فَحَشَرَ أي فجمع السحرة لقوله تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعراء: ٥٣] وقوله سبحانه فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: ٦٠] أي ما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته فَنادى في المجمع نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال: يقول فرعون أَنَا رَبُّكُمُ إلخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد ك وَعْدَ اللَّهِ [النساء: ١٢٢ وغيرها] وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا، وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة إلخ. وأن يكون مفعولا له أي أخذه لأجل نكال إلخ. وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى، وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر. وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة

صفحة رقم 231
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية