
وإنما قيل (كِتاباً) دون أن يقال (إحصاء) لأن الكتابة هى النهاية فى قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شىء عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: «وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى فى ثباته وضبطه ما يكتب».
وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات- رتب عليه هذا الجزاء فقال:
(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال: «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ».
روى قتادة عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً».
ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم فى يوم الفصل، وغضبا من أرحم الراحمين، وتيئيسا لهم من الغفران.
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦)
شرح المفردات
مفازا: أي فوزا بالنعيم والثواب، حدائق: أي بساتين فيها أنواع الثمر والشجر وأعنابا. واحدها عنب، وكواعب: واحدها كاعب، وهى التي نهد ثدياها وتكعبا، والأتراب: واحدهنّ ترب، وهى التي سنها من سن صاحبتها، والكأس: إناء من بلور للشراب، دهاقا: أي ممتلئة، يقال أدهق الحوض: أي ملأه. قال خداش ابن زهير:

أتاتا عامر يبغى قرانا... فأقرعنا له كأسا دهاقا
واللغو: الباطل من الكلام، والكذّاب: التكذيب، عطاء: أي تفضلا منه وإحسانا، حسابا: أي كافيا لهم، تقول أعطانى فلان حتى أحسبنى: أي حتى كفانى بعطائه. قال:
فلما حللت به ضمّنى... فأولى جميلا وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال المكذبين، أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء من الله تعالى، وفى هذا استنهاض لعوالى الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها إبلاما لأنفس الضالين المكذبين.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي إن لمن اتقى محارم الله وخاف عقابه فوزا بالكرامة والثواب العظيم، فى جنات النعيم.
ثم فسر هذا الفوز وفصله فقال:
(حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار لها أسوار محيطة بها، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيها النفوس، وتقرّ به العيون.
وقد أفردت بالذكر وهى مما يكون فى الحدائق عناية بأمرها كما جاء فى قوله:
«مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ».
ثم وصف ما فى الحدائق والجنات فقال: