أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار كيفية عذابهم في الآخرة
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٤٠]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
الإعراب:
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وقرئ: «جمالات» : جمع جمالة، وجمالة جمع جمل، كحجر وحجارة، وذكر وذكارة، فعلى هذا (جمالات) جمع الجمع.
لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يَنْطِقُونَ كأنه قال: لا ينطقون ولا يعتذرون، كقراءة من قرأ: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر ٣٥/ ٣٦] بالياء والنون، كأنه قال: لا يقضى عليهم ولا يموتون. فلو حملت الآية على ظاهرها لتناقض المعنى لأنه يصير التقدير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون، فيكون ذلك متناقضا لأن الاعتذار نطق. أو معطوف على يؤذن، ليدل على نفي الإذن، أي لا إذن فلا اعتذار.
البلاغة:
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تشبيه مرسل مجمل لحذف وجه الشبه، وكَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تشبيه مرسل مفصل، وفي التشبيه بالقصر وهو الحصن، تشبيه من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الارتفاع. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم، والارتفاع، والصفرة.
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ.. أسلوب التهكم، سمى العذاب ظلّا تهكما وسخرية بهم.
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
انْطَلِقُوا وفي قراءة «انطلقوا» إخبارا عن امتثالهم للأمر اضطرارا. إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ظل دخان جهنم، إذا ارتفع افترق ثلاث فرق، لعظمه، والشعب: الفروع.
لا ظَلِيلٍ لا وقاية فيه من حرّ ذلك اليوم، وهو تهكم بهم، وردّ لما أوهم لفظ الظلل.
وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ لا يفيدهم من حرّ اللهب شيئا، واللهب: شعلة النار. إِنَّها أي النار. بِشَرَرٍ ما تطاير من النار، جمع شرارة. كَالْقَصْرِ كالبناء الكبير المشيد في عظمه وارتفاعه.
جِمالَتٌ جمع جمل، وقرئ: جمالات: جمع الجمع. صُفْرٌ في الهيئة واللون، وقيل:
سود، فإن سود الإبل يضرب إلى الصفر، والأول تشبيه في العظم والارتفاع، الثاني في العظم والارتفاع واللون، والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة. هذا أي يوم القيامة، وقرئ:
يوما، أي هذا المذكور واقع يومئذ. لا يَنْطِقُونَ فيه بشيء يستحق الذكر، فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق. الْفَصْلِ بين المحق والمبطل. جَمَعْناكُمْ أيها المكذبون من هذه الأمة.
وَالْأَوَّلِينَ من المكذبين قبلكم، فتحاسبون وتعذبون جميعا. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم، فافعلوها واحتالوا علي. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عذاب يوم القيامة لمن كذب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.
المناسبة:
بعد أن هدد الله تعالى الكفار بعذاب يوم الفصل والقيامة، أبان كيفية عذابهم في الآخرة، بزجهم في النيران، وافتضاحهم على رؤوس الأشهاد، حيث لا عذر لهم ولا حجة في قبائحهم، وتعذيبهم بالتقريع والتخجيل، وتلك أنواع ثلاثة أخرى من أنواع تخويف الكفار وتهديدهم.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عما يقال يوم القيامة للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة
والنار، فقال مبينا النوع الخامس من أنواع التهديد:
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي يقال للكفار من قبل خزنة جهنم:
اركضوا أو سيروا واذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب الأخروي في الدنيا.
ثم وصف الله تعالى هذا العذاب بأربع صفات، بقوله:
١- انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ هذا تهكم بهم، معناه: سيروا إلى ظل من دخان جهنم متشعب إلى شعب ثلاث أو فرق، فإن لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، صار له ثلاث شعب من شدته وقوته. والمراد أنهم يتنقلون من عذاب إلى آخر، وأن العذاب محيط بهم من كل جانب، كما قال تعالى:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف ١٨/ ٢٩] وسرادق النار: هو الدخان فتكون تسمية النار بالظل مجازا من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب، كقوله سبحانه:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦] وقوله:
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ٥٥].
٢، ٣- لا ظَلِيلٍ، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وهذا أيضا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين، فذلك الظل لا يمنع حرّ الشمس، وليس فيه برد ظلال الدنيا، ولا يفيد في رد حرّ جهنم عنكم شيئا لأن هذا الظل في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها، كما جاء في آية أخرى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة ٥٦/ ٤٢- ٤٤].
واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر.
٤- إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق، كل شرارة من شررها التي ترمي بها كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة
الحركة. وقال الفرّاء: الصفر سود الإبل لأنها مشربة بصفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا. والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. والشرر جمع شرارة: وهو ما تطاير من النار في كل جهة.
والمقصود بالتشبيه الأول بيان أن تلك النار عظيمة جدا، والمقصود بالتشبيه الثاني شدة اشتعالها، والتهكم بهم، كأنه قيل: كنتم تتوقعون من وثنيتكم كرامة ونعمة وجمالا، إلا أن تلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال، لذا أعقبه بقوله:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي في يوم القيامة الهائل للمكذبين لرسل الله وآياته، الذين لا مفر لهم من ذلك العذاب.
ثم وصف تعالى ماذا يكون للكفار في ذلك اليوم من ألوان العذاب الأدبية، وهو النوع السادس من أنواع التخويف، فقال:
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي هذا اليوم لا يتكلمون فيه، لهول ما يرون، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم، ولا يأذن الله لهم، فيكون لهم اعتذار، بل قد قامت عليهم الحجة، لذا قال تعالى:
لا تَعْتَذِرُوا، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة ٩/ ٦٦] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم ٦٦/ ٧].
والمراد بهذا النوع بيان أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والقبائح والمنكرات، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم. وبيان هذا النوع للدلالة على شدة أهوال القيامة.
وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه تعالى قدّم الإنذار في الدنيا، بدليل قوله في مطلع السورة: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً. ولهذا قال في آخر هذا الإخبار:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة للمكذبين بما أنذرتهم به الرسل من العذاب في الدنيا، إن استمروا على الكفر، وخالفوا أوامر الرسل.
ثم أخبر الله تعالى عن النوع السابع من أنواع تهديد الكفار، فقال:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ، جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي ويقول الخالق لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، جمعناكم بقدرتنا يا معشر كفار قريش وأمثالكم المتأخرين على مرّ الدهور فيه مع الكفار الأولين، وهم كفار الأمم الماضية في صعيد واحد، ولجزاء واحد.
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن قدرتم أيها الكفار بحيلة ما على أن تتخلصوا من العذاب، فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية في التقريع والتحقير والتخجيل والتعجيز والتوبيخ وهو من جنس العذاب الروحاني، لذا قال عقيبه:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة لكل من كذب بالبعث، لأنه ظهر لهم عجزهم وفقد كل أمل لهم بالنجاة من العقاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار إضافة للأنواع الأربعة المتقدمة:
النوع الخامس- بيان كيفية عذابهم في الآخرة: يقال للكفار تبكيتا وتهكما وتقريعا من خزنة جهنم: سيروا إلى ما كذبتم به من العذاب وهو النار، فقد شاهدتموها عيانا.
وعذاب النار له أوصاف أربعة: يتشعب ظله أو دخانه إلى ثلاث شعب، كما هو شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب، وليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، ولا يدفع من لهب جهنم شيئا، وترمي النار بشرارات، كل شرارة كالقصر:
البناء العالي، في العظم والارتفاع، مما يدل على أن تلك النار عظيمة جدا، وهي أيضا كالجمالات الصّفر: وهي الإبل السود، والعرب تسمي السّود من الإبل صفرا مما يدل على أن تلك النار شديدة الاشتعال كثيفة، متتابعة، سريعة الالتهاب.
وذكر القرطبي أن في هذه الآية دليلا على جواز ادّخار الحطب والفحم، وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء، مما يقتضي أن يكتسبه في غير وقت حاجته ليكون أرخص، وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدّخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شيء محمول عليه «١».
النوع السادس- بطلان الحجة، وفقد العذر، والعجز: أبان تعالى أنه ليس للكفار يوم القيامة عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من القبائح، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم، فاجتمع عليهم عذاب التخجيل والعذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها.
النوع السابع- التعذيب بالتقريع والتخجيل: يقال للكفار يوم القيامة:
هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحقّ من المبطل، والذي جمع فيه في صعيد واحد أوائل الكفار وأواخرهم، سواء الذين كذبوا الرسل المتقدمين قبل نبينا، أو كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وقد تحداهم الله تعالى بأن يجدوا لأنفسهم ملجأ أو وقاية من العذاب على المعاصي التي اقترفوها في الدنيا، ولكنهم يعجزون عن ذلك وعن الدفع عن أنفسهم.
ويكون الفصل فيما بين العباد بعضهم مع بعض من حقوق وظلامات، فهذا يدعي على آخر أنه ظلمه، أو قتله، وآخر يدعي أنه اغتصب منه شيئا أو سرق ماله، وهكذا.