
الصحف، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يعنى تذكرة بليغة كافية، مبهم أمرها في الكفاية فَمَنْ شاءَ أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه. والضمير في إِنَّهُ وذَكَرَهُ للتذكرة في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى: إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه. لأنهم مطبوع على قلوبهم. معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا. وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه» «١» وقرئ: يذكرون. بالياء والتاء مخففا ومشددا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة» «٢».
سورة القيامة
مكية، وآياتها ٤٠ [نزلت بعد القارعة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك أبنة العامرىّ | لا يدّعى القوم أنّى أفرّ «١» |
ألا نادت أمامة باحتمال | لتحزننى فلا بك ما أبالى «٢» |
في بئر لا حور سرى وما شعر «٣»
واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله، وأجابوا بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح، لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد. ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته. والوجه أن يقال: هي للنفي. والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إنّ إعظامى له بإقسامى به كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل إن «لا» نفى لكلام
(٢).
إذا نادت أمامة باحتمال | لتحزننى فلا بك ما أبالى |
فسيرى ما بدا لك أو أقيمي | فأيا ما أتيت ففي نقالى |
(٣).
في بئر لا حور سرى وما شعر | بافكه حتى إذا الصبح حشر |

وردّ له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أى ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل:
أقسم بيوم القيامة. فإن قلت: قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ والأبيات التي أنشدتها: المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة النفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا، كقولك لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لا تتركون سدى؟
قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول ماغ، ولكنه لم يقصر. ألا ترى كيف لقى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ بقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وكذلك فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ بقوله إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وقرئ: لأقسم، على أنّ اللام للابتداء. وأقسم خبر مبتدإ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه أى في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن الحسن: إن المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وإنّ الكافر يمضى قدما لا يعاتب نفسه «١». وقيل: هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة.
وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو لتبعثن. وقرأ قتادة: أن لن نجمع عظامه، على البناء للمفعول. والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا مختلطا بالتراب، وبعد ما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل إن عدى ابن أبى ربيعة ختن الأخنس بن شريق «٢» وهما اللذان كان رسول الله ﷺ يقول فيهما: «اللهم اكفني جارى السوء» «٣» قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به أو يجمع الله العظام، فنزلت بَلى أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل بَلى نجمعها. وقادِرِينَ حال من الضمير في نجمع، أى: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول، إلى أن نسوى بنانه أى: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه. أو على أن نسوى بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام. وقيل: معناه بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه
(٢). قوله «ختن الأخنس بن شريق» في الصحاح «الختن» بالتحريك: كل من كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ، وعند العامة: ختن الرجل زوج ابنته. (ع)
(٣). ذكره الثعلبي والبغوي، والواحدي بغير إسناد. [.....]