
سورة القيمة
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
قوله تعالى: لا أُقْسِمُ اتفقوا على أن المعنى «قسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «١» وجعلها بعضهم توكيدا للقسم كقولك: لا والله لا أفعل، وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث. ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة: زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك كما تقول: ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد. وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام فجعلها لاما دخلت على «أقسم»، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة. وابن محيصن. قال الزجاج:
من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأَضربنَّ زيداً. ولا يجوز: لأَضْرِبُ زيداً.
قوله عزّ وجلّ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال الحسن: أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها حكم الأولى.
وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم. والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا ترى المؤمن
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٢٨: إن المقسم عليه متى كان منفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه هاهنا إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد، ولهذا قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قال قتادة رحمه الله وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره ابن جرير.

إلا يلوم نفسه على كل حال. والثالث: أنها جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت. وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتني لم أفعل «١».
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ المراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وقال ابن عباس: يريد أبا جهل.
(١٥٠٤) وقال مقاتل: عدي بن ربيعة وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم له:
«نعم»، فاستهزأَ مِنْه، فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف كأنه: ليبعثنّ ليحاسبنّ، فدلّ قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على الجواب، محذوف.
وقوله عزّ وجلّ: بَلى وقف حسن. ثم يُبتدأ قادِرِينَ على معنى: بلى نجمعها قادرين، ويصلح نصب «قادرين» على التكرير: بلى فَلْيَحْسَبْنَا قادرين عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وفيه قولان: أحدهما:
أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور. والثاني: نقدر على تسوية بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
وقد بينا معنى البنان في الأنفال «٢».
قوله عزّ وجلّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان: أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس. والثاني: يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم. وعلى الأول: الكافر.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي: متى هو؟ تكذيباً به، وهذا هو الكافر، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون بكسرها: قال الفراء: العرب تقول: بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق يبرُق: إذا رأى هولاً يفزع منه. و «بَرِق» أكثر وأجود. قال الشاعر:
فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني | ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ «٣» |
قوله عزّ وجلّ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ قال أبو عبيدة: خسف وكسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوءه.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦١٨١.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٣٢٧: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن- النفس اللوامة- وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعاني، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
(٢) الأنفال: ١٢.
(٣) البيت لطرفة بن العبد، في ديوانه: ٢١٨، و «اللسان» - برق.