
ومنهم من جعلهما جميعًا في حال حياته. وهو قول إبراهيم (١)، ومجاهد (٢) قالا: ﴿بِما قَدَّم﴾ أي بأقل عمله في أول عمره، وبما أخر، بما عمل في آخر عمله. وهو قول عطاء، ونحو هذا قال قتادة (٣) في التقديم والتأخير، إلا أنه قال: (ما قدم) من عمل من طاعة الله، (وما أخر) ما ضيع من حق الله، وقصر فيه فلم يعمله.
وقال ابن زيد: بما قدم من عمل من خير أو شر، وما أخر من طاعة فلم يعمل بها (٤). ونظير هذه الآية قوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥)﴾ [الانفطار: ٥].
١٤ - وقوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)﴾ أي شاهد. يعني: أن جوارحه تشهد عليه بما عمل، فهو شاهد على نفسه شهادة جوارحه. وهذا قول ابن عباس (٥)، وعطاء (٦)، والكلبي (٧)، ومقاتل (٨)، وسعيد بن
(٢) "جامع البيان" ٢٩/ ١٨٤، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٦/ أ، و"النكت والعيون" ٦/ ١٥٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٢٢، و"زاد المسير" ٨/ ١٣٦، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٢٢١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ٩٧، و"البحر المحيط" ٨/ ٣٨٦.
(٣) "الكشف والبيان" ١٣/ ٦/ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٢٢.
(٤) المرجعان السابقان، و"جامع البيان" ٢٩/ ١٨٤، و"النكت والعيون" ٦/ ١٥٤.
(٥) "جامع البيان" ٢٩/ ٢٨٤.
(٦) "جامع البيان" ٢٩/ ١٨٥، و"الكشف والبيان" ١٣: ٦/ ب، و"النكت والعيون" ٦/ ١٥٤، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٣٤، و"الدر المنثور" ٨/ ٣٤٧ وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٧) "الكشف والبيان" ١٣/ ٦/ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٢٣.
(٨) المرجعان السابقان.

جبير (١)، ومجاهد (٢)، وقتادة (٣)، والجميع (٤)، (وهذا كقوله: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور: ٢٤]، وقوله: ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ [يس: ٦٥]، وقوله: ﴿عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ﴾ [فصلت: ٢٠]. فأعلم الله أن هذه الجوارح شواهد على الإنسان) (٥).
قال الفراء: يقول على الإنسان من نفسه بصيرة -يعني- رقباء يشهدون عليه بعمله: اليدان، والرجلان، والعينان، والذكر (٦).
فأمَّا تأنيث (البصيرة) فيجوز أن يكون؛ لأن المراد بالإنسان -هاهنا -
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله. وانظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٣٤، و"جامع البيان" ٢٩/ ١٨٥، و"ابن كثير" ٤/ ٤٧٨.
(٤) وإلي هذا ذهب أيضا ابن قتيبة. انظر: "تفسير غريب القرآن" ٥٠٠، وذكر الطبري وغيره قولًا آخر في معنى: (بصيرة) قال: معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب. وهذا قول الحسن، وقتادة. انظر: "جامع البيان" ٢٩/ ١٨٥، و"النكت والعيون" ٦/ ١٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ٩٩. كما ذكر القرطبي قولًا ثالثًا، قال: وقيل: المراد بالبصيرة: الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون فيه من خير وشر. قاله ابن عباس. "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ٩٨، وانظر: "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٠٤، وبهذين القولين يتبين أن ليس الجميع قال بما ذكره الواحدي، وإن كان القول الثالث يدخل ضمن شهادة الجوارح والنفس عليه، وهذا من منهج الواحدي في تقريره للإجماع أو العزو إلى المفسرين أو الجميع، فما خالف الجمع فإنه لا يعتبره مخالفًا بل قول منفرد لا يؤثر على الإجماع، والله أعلم.
(٥) ما بين القوسين نقله بتصرف عن الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٥٢ - ٢٥٣.
(٦) "معاني القرآن" ٣/ ٣١١ بنصه.