[الجزء الثاني]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة الجن عدد ٤٠- ٧٢نزلت في مكة بعد الأعراف، وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة نوح، وبينا السور المبدوءة بكلمة قل وما يتعلق فيها في سورة الكافرين فراجعها.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم من الإنس والجن والملائكة «أُوحِيَ» اليوم «إِلَيَّ» من ربي «أَنَّهُ اسْتَمَعَ» قراءة القرآن بدلالة ذكره بعده وهذا مما حسن حذفه «نَفَرٌ» قال في المجمل النفر والرهط يستعمل إلى الأربعين، وقد وهم الحريري بقوله إنه يطلق على ما فوق العشرة وغلط غيره القائل بأنه ما بين الثلاثة إلى العشرة، واعلم أنه لا يختص بالرجال ولا بالناس كما قاله الآخرون لإطلاقه هنا على الجن، والفرق بينه وبين الرهط بأن الرهط يرجعون لأب واحد والنفر لآباء متفرقين، وهما اسما جمع لا واحد له من لفظه «مِنَ الْجِنِّ» وهم فصيلة على حدة قال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ (مِنْ قَبْلُ) مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية ٢٨ من سور الحجر في ج ٢، وقد نسب إبليس عليه اللعنة إلى هذه الفصيلة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٢ من سورة الكهف في ج ٢ أيضا. هذا، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه ﷺ أن يظهر لأصحابه رضوان الله عليهم واقعة الجن هذه معه ويطلعهم عليها، ليعلموا عموم رسالته، وأنه كما هو مبعوث إلى الإنس مبعوث إلى الجن أيضا، ولتعلم قريش بأسرها هذا وتحدث به غيرها، وليفطنوا أن الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآن صفحة رقم 3
يتلى من قبله عرفوا أنه قول معجز لجميع الخلق وأنه لا يكون إلا من الله جل شأنه، فآمنوا به، وإعلام لقريش وغيرهم بأن المؤمن من الجن يدعو غيره للايمان لشدة تأثيره في قلبه، عكس كفرة مكة وغيرهم من المشركين فإنهم يعرضون عن سماعه ويصرفون غيرهم عن الإيمان به، وينفّرونهم من سماعه لإيذاء حضرة الرسول قصد تكذيبه، وهو الصادق المصدوق الأمين المؤتمن.
وخلاصة ما جاء في هذه القصة هو ما رواه محمد بن اسحق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرفي قال: لما انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف، جلس لأشرافهم ودعاهم إلى الله والإيمان به بالقول والفعل، وأعلمهم بأنه رسوله إليهم كما هو لغيرهم، فلم يرد الله بهم خيرا، وذلك في بدء السنة العاشرة من البعثة، فأغروا به السفهاء والعبيد وآذوه بالقول والفعل، ولما أيس منهم ﷺ رجع حتى كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جنّ نصيبين (سبعة أو تسعة لم يثبت عددهم على الحقيقة والآية عامة والنفر يطلق على الواحد حتى الأربعين كما مر بك) كانوا قاصدين اليمن حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب أكثر من ذي قبل احتراما لمبعث الرسول ومعجزة له وإكراما، فاستمعوا لقراءته حتي فرغ من صلاته، فآمنوا به ﷺ إجابة لما سمعوه من القرآن. وقال قتادة ذكر لنا ابن مسعود حين قدم الكوفة فرأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم، قال أظهروا فقيل له إن هؤلاء قوم من الزط. فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله ﷺ ليلة الجن، وفى رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود، قال ولم يحضر معه أحد غيره، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله ﷺ شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت غبشة أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته،
ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله منهم مع الفجر، فانطلق إليّ فقال تمت؟ قلت لا والله يا رسول الله، لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم اجلسوا، فقال لو خرجت (من خطتك) لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض، قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة، قالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا (فنهى ﷺ أن يستنجى بالعظم والروث) فقلت يا رسول الله سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن قد تدارأت (أي اختلفت فيما بينها وتدافعت في الخصومة) في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق (هذا ينافي قول من قال إنه صلّى الله عليه وسلم ما عرف ماذا قال الجن وأي شيء فعلوا) بل تفيد أنه ﷺ فهم منهم وأفهمهم، وإلا لما جاز أن يقضي بينهم، لأن القضاء لا يجوز إلا بعد معرفة قول المدعي والمدعى عليه، ولا يكون إلا بالإقرار أو البينة أو الحلف، وينافي القول أيضا بأنه لم ير الجن، فإذا كان ابن مسعود وهو محجّر عليه بعيد عنهم وآهم، فكيف به ﷺ وقد أحاطوا به كالهالة في القمر؟ أما إذا قيل إنه صلّى الله عليه وسلم لم يرهم على صورتهم التي خلقوا عليها فيجوز، لأنهم يتكيفون بصور مختلفة وهيئات متباينة، وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلم رآهم. بصفة الإنس كما مر في قول ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك كان يرى الملك بصورة دحية كما مرّ في بحث الوحي في المقدمة، قال ثم تبرز ﷺ وأتاني فقال هل معك ماء؟ قلت يا رسول الله معي أداوة (إناء فيه ماء كالجود للمسافر) فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاني فصببت على يده فتوضأ وقال ثمرة طيبة وماء طهور. هذا، وقد ضعف هذا الحديث جماعة كما ذكره البيهقي في كتابه (الخلافيات) بأسانيد وأجاب عنها كلها، والذي صح عن علقمة قال: قلت لابن مسعود وهل صحب النبي ﷺ ليلة الجن منكم أحد؟ قال ما صحبه منا أحد (فمن هنا ظهر ضعف حديث التوضؤ بنبيذ التمر إذ يقول فيه إن ابن مسعود
صحب النبي صلّى الله عليه وسلم فقط بعد أن قال ما قال، وهنا يقول هو نفسه ما صحبه منا
أحد اللهم الا أن يريد ما صحبه غيره، تدبر. على أن ابن تيمية قال إن ابن عباس علم مادل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وابو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه، وواقعة الجن هذه كانت قبل الهجرة بأكثر من ثلاث سنين قال الواقدي إنها وقعت سنة إحدى عشرة من النبوة، والصحيح ما ذكره البرزنجي أنها في العاشرة، لأنها قبل الإسراء، والإسراء وقع في العاشرة، فلا يصح أن تكون حادثة الجن بعده لأنها قبله على الصحيح. وقالوا إن قصة الجن وقعت مع النبي صلّى الله عليه وسلم ست مرات) رجوع إلى قول ابن مسعود: وقال ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فقصدناه فالتمسناه في الأودية والشعبات فقلنا استطير أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا شر ليلة يأت بها قوم، قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار منازلهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون عليه لحما وكل بعرة علفا لدوابكم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فانهما طعام إخوانكم الجن. زاد في رواية: قال الشعبي وكانوا من جن الجزيرة- أخرجه مسلم في صحيحه. -
مطلب رواية الجن ورمي النجوم:
هذا وإن في الحديث الأول إثبات رؤية الجن له ﷺ وفي هذا الحديث أيضا، إلا أن ابن عباس أنكرها فيما رواه عنه البخاري ومسلم قال ابن عباس ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، ولكن انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم، قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي ﷺ وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن
استمعوا اليه وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم (فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل الله على نبيه (قُلْ أُوحِيَ) إلخ، زاد في رواية: وإنما أوحي اليه قول الجن- أخرجاه في الصحيحين- قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس: هذا معناه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، أي استراق السمع صادف هؤلاء النفر رسول الله يصلي بأصحابه، وعلى هذا فهو صلّى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحى اليه من قوله قل أوحي إلخ، وإنما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجنّ آخرون ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٩ من سورة الأحقاف في ج ٢ والحاصل من الكتاب والسنة أن الجن موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على ما يليق بحقهم وحالهم، وأن النبي ﷺ كما هو رسول إلى الإنس رسول إلى الجن، فمن آمن به فهو مع المؤمنين في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو مع الشياطين والكافرين المبعدين المعذبين في جهنم، وانه صلّى الله عليه وسلم وآهم رؤية بصرية لا بصورتهم الحقيقية كما في هذه الأحاديث وفيما أوردناه في تفسير الآية (٢٠٠) من الأعراف المارة- في الجزء الاول- وفي لآية ٢٥ من سورة ص المارة أيضا. ويفهم من هذا الحديث أن الرجم بالنجوم لم يكن قبل مبعث النبي ﷺ على أن الزهري روى عن علي بن الحسن رضي الله عنهما عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، وروى عن معمر قال قلت المزهري أكان الرمي بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم قلت رأيت قوله تعالى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) الآية الآتية، قال غلّفت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال ابن ابن قتيبة مثله، وبهذا ارتفع التعارض بين الحديثين ويظهر من هذا كله أن الجن موجودون وأن النبي رآهم وأنهم مكلفون مثل البشر، وأن محمدا ﷺ مرسل إليهم وأن رميهم بالشهب كان قبلا وزاد بمبعثه، وان الاعتقاد بذلك كله واجب
صفحة رقم 7
وأن العرب كانت تعرف الرمي قبل الإسلام لوجود ذكره في أشعارهم في الجاهلية قال بشر ابن أبي حازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها... ينقض خلفها انقضاض الكوكب
وقال اويس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه... نقع يثور تخاله طينا
وقال عوف بن الجزع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون الفه... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق، فمنهم اللطيف ومنهم، الكثيف، والعلوي والسفلي، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية ٢٧ المارة، وما سيأتي في الآيتين ١٦/ ٣٩ من سورة النمل، والآيتين ١١/ ١٢ من سورة سبأ والآية ٨٢ من الأنبياء في ج ٢، وغيرها مما نورده في محله إن شاء الله، وذلك بإقدار الله إياهم، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لا بدّ من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى، وهو كفر بحت والعياذ بالله، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها، وقدرة على الأفعال
الشاقة وغيرها، على أن هناك جمعا عظيما من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات اعترفوا بوجودهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية، هذا وقد اختلف العلماء فيما سمعوه من القرآن أيضا قيل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وقيل غيرها، إلا أن ما قيل إنه سورة الرحمن لا يصحّ لأنها نزلت بالمدينة وقضية الجنّ في مكة بلا خلاف، وما رواه جابر عن النبي ﷺ قال خرج رسول الله ﷺ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال لقد قرأتها ليلة الجن على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب، وفي رواية كانوا أحسن منكم ردا فإنه أي هذا الحديث على فرض صحته عبارة عن حكاية ذكرها لأصحابه حضرة الرسول لا يعلم تاريخها فلا يصح الاستدلال بها لاحتمال وقوعها في المدينة وهو الأقرب للمعقول، لأن الرسول اجتمع كثيرا مع الجن وقد ذكرنا آنفا انه اجتمع معهم ست مرات، وأنت خبير بأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أبطل الاستدلال به، تأمل هذا: واعلم أن القرآن ذكر حادثتين في استماع الجن في هذه السورة وفي الآية ٣٩ فما بعدها من سورة الأحقاف في ج ٢، وأن الله قصّها علينا بواسطة رسوله على طريق الحكاية، ولا يبعد أن حضرة الرسول قرأ عليهم غيرها في مكة أو المدينة بعد أن ذكروا أن الاجتماع بهم كان ست مرات، قال تعالى حاكيا ما قاله الجن عند سماعهم قراءة رسوله «فَقالُوا» بعضهم لبعض «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» ١ ما سمعنا مثله، بديعا في حسن نظمه، بالغا في صحة معانيه، لطيفا في تركيب مبانيه، مباينا لكلام البشر، وجدير أن يتعجب منه لأنه «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» الحق والصواب والعدل والسداد، يقرأ بسكون الشين وضمها وبفتح الراء والشين وضمها «فَآمَنَّا بِهِ» لما سمعناه إذ تحقق لدينا أنه كلام الله، وأن البشر يعجز عن مثله، وإنا رجعنا عن الإشراك بمنزل هذا القرآن «وَلَنْ نُشْرِكَ» من الآن فصاعدا «بِرَبِّنا أَحَداً» ٢
صفحة رقم 9
ولا شيئا من كافة الأوثان، وتدل هذه الآية على أن هؤلاء الجن كانوا مشركين، لذلك تبرأوا من الشرك ونزهوا ربهم عما يقوله الظالمون من اتخاذ الصاحبة والولد بقولهم «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ٣ كما يزعمه المشركون، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس والمعونة، والله منزه عن ذلك كله. قال أنس: كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم. ويطلق الجد على الغني، منه قوله صلى الله عليه وسلم
: ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا» إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم، فتكون الإضافة للجنس، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه «عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» ٤ كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك «وَأَنَّا ظَنَنَّا» قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد «أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ٥ لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن لله ولدا وصاحبة وشريكا، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف بالله كاذبا، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول الله ﷺ بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله بمكة هذه الآية «فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ٦ الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم. قال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | لا يشتفي رامق ما لم يصب رهقا |