آيات من القرآن الكريم

قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ

[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٦ الى ٢٨]

وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
وقوله- سبحانه-: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً... معطوف على قوله- تعالى-: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ... فهو من جملة الموحى به، وهو من كلام الله- تعالى- لبيان سنة من سننه في خلقه، واسم «أن» المخففة ضمير الشأن، والخبر قوله، لَوِ اسْتَقامُوا... والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإنس أم من الجن.
والماء الغدق: هو الماء الكثير، يقال: غدقت عين فلان غدقا- كفرح- إذا كثر دمعها فهي غدقة، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير، والمراد: لأعطيناهم نعما كثيرة.

صفحة رقم 139

أى: ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى، التي هي طريق الإسلام، والتزموا بما جاءهم به النبي ﷺ من عند ربه...
لو أنهم فعلوا ذلك، لفتحنا عليهم أبواب الرزق، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير... وخص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش والسعة.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وقوله- سبحانه- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ... وقوله- تعالى- وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ....
ثم بين- سبحانه- الحكمة في هذا العطاء لعباده فقال: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وأصل الفتن الامتحان والاختبار. تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: اختبرته لتعرف مقدار جودته.
والمعنى: نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا، لنختبرهم ونمتحنهم، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم... ؟.
والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها، وبين قوله- تعالى- بعد ذلك: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً.
وقوله: يَسْلُكْهُ من السلك بمعنى إدخال الشيء في الشيء ومنه قوله- تعالى-:
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. والصّعد: الشاق. يقال: فلان في صعد من أمره، أى: في مشقة وتعب، وهو مصدر صعد- كفرح- صعدا وصعودا.
أى: ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته... يدخله- سبحانه- في عذاب شاق أليم، لا مفر منه، ولا مهرب له عنه.
ومن الحقائق والحكم التي نأخذها من هاتين الآيتين، أن الاستقامة على أمر الله، تؤدى إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار، كما قال- تعالى-: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وأن الإعراض عن ذكر الله.... عاقبته الخسران المبين، والعذاب الأليم.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.
وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة

صفحة رقم 140

فمعنى لَأَسْقَيْناهُمْ لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا، لأن الخير والرزق كله، بالمطر يكون، فأقيم مقامه.
وفي صحيح مسلم، عن أبى سعيد الخدري، أن رسول الله ﷺ قال: «أخوف ما أخاف عليكم، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض... ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» «١».
ثم بين- سبحانه- أن المساجد التي تقام فيها الصلاة والعبادات، يجب أن تنسب إلى الله- تعالى- وحده، فقال: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
والمساجد: جمع مسجد، وهو المكان المعد لإقامة الصلاة والعبادة فيه. واللام في قوله لِلَّهِ، للاستحقاق.
أى: وأوحى إلىّ- أيضا- أن المساجد التي هي أماكن الصلاة والعبادة لا تكون إلا لله- تعالى- وحده، ولا يجوز أن تنسب إلى صنم من الأصنام، أو طاغوت من الطواغيت.
قال الإمام ابن كثير: قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين، أن يوحدوه وحده.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود. أى: هي لله فلا تسجدوا بها لغيره... وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين «٢».
ويبدو لنا أن المراد بالمساجد هنا الأماكن المعدة للصلاة والعبادة، لأن هذا هو المتبادر من معنى الآية، وأن المقصود بها توبيخ المشركين الذين وضعوا الأنصاب والأصنام، في المسجد الحرام وأشركوها في العبادة مع الله- تعالى-.
وأضاف- سبحانه- المساجد إليه، على سبيل التشريف والتكريم وقد تضاف إلى غيره- تعالى- على سبيل التعريف فحسب، وفي الحديث الشريف: «الصلاة في مسجدى هذا خير من ألف صلاة في غيره، إلا المسجد الحرام».

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٨.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٠.

صفحة رقم 141

ثم بين- سبحانه- حال الصالحين من الجن، عند ما استمعوا إلى النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن، ويتقرب إلى الله- تعالى- بالعبادة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً.
أى: وأوحى الله- تعالى- فيما أوحى من شأن الجن، أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ وهو محمد ﷺ يَدْعُوهُ أى: يدعو الله- تعالى- ويعبده في الصلاة، كادُوا أى: الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أى: كادوا من شدة التزاحم عليه، والتكتل حوله..
يكونون كاللبد، أى: كالشىء الذي تلبد بعضه فوق بعض. ولفظ «لبدا» جمع لبدة، وهي الجماعة المتزاحمة، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
ووضع- سبحانه- الاسم الظاهر موضع المضمر، إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمت تدعو الله.. أو لما قمت أدعو الله... تكريما للنبي ﷺ حيث وصفه بأنه «عبد الله» لما في هذه الإضافة من التشريف والتكريم.
والجن: إنما ازدحموا حول الرسول ﷺ وهو يصلى ويقرأ القرآن... تعجبا مما شاهدوه من صلاته، ومن حسن قراءته، ومن كمال اقتداء أصحابه، قياما، وركوعا، وسجودا...
ومنهم من يرى أن الضمير في «كادوا» يعود لكفار قريش، فيكون المعنى: وأنه لما قام محمد ﷺ يدعو ربه... كادوا من تزاحمهم عليه، يكونون كاللبد، لا لكي ينتفعوا بما يسمعون، ولكن لكي يطفئوا نور الله بأفواههم، والحال أن الله- تعالى- قد رد كيدهم في نحورهم، وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
قال صاحب الكشاف: «عبد الله» هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: هلا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلام رسول الله ﷺ عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله، لله- تعالى- ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا.
ومعنى «قام يدعوه» : قام يعبده. يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته، وتزاحموا عليه.
وقيل معناه: لما قام رسول يعبد الله وحده، مخالفا المشركين في عبادتهم كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين... «١».
ويبدو لنا أن عودة الضمير في «كادوا» على مؤمنى الجن أرجح، لأن هذا هو الموافق

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٣٠.

صفحة رقم 142

لإعجابهم بالقرآن الذي سمعوه من النبي ﷺ لأن هذا هو الظاهر من سياق الآيات، حيث إن الحديث عنهم، ولأن الآثار قد وردت في أن الجن قد التفوا حول النبي ﷺ حين سمعوه يقرأ القرآن.
ومن هذه الآثار قول الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي ﷺ كادوا يركب بعضهم بعضا ازدحاما عليه... «١».
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يعلن لجميع من أرسل إليهم، أنه لا يعبد أحدا سواه- عز وجل- فقال: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لجميع من أرسلناك إليهم من الجن والإنس: إنى أعبد ربي وحده، وأتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب، ولا أشرك معه أحدا في عبادتي أو صلاتي أو نسكي...
وقل لهم، كذلك: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أى: لا أملك ما يضركم وَلا رَشَداً أى: ولا أملك ما ينفعكم، وإنما الذي يملك ذلك هو الله- تعالى- وحده.
وقل لهم للمرة الثالثة: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أى: إنى لن يمنعني أحد من الله- تعالى- إن أرادنى بسوء.
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أى: ولن أجد من دونه ملجأ أركن إليه. يقال: التحد فلان إلى كذا، أى: مال إليه.
فالآية الكريمة بيان لعجزه ﷺ عن شئون نفسه أمام قدرة خالقه- عز وجل- بعد بيان عجزه عن شئون غيره.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ.... استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ، وهما قوله قبل ذلك: ضَرًّا وَلا رَشَداً وما يليهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة. أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- إنى لا أملك ما يضركم ولا أملك ما ينفعكم، وإنما الذي أملكه هو تبليغ رسالات ربي إليكم، بأمانة واجتهاد.
والبلاغ: مصدر بلّغ، وهو إيصال الكلام أو الحديث إلى الغير، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول، مثل: «هذا خلق الله»، و «من» ابتدائية صفة لقوله:
«بلاغا» أى: بلاغا كائنا من جهة الله- تعالى- وأمره. والرسالات: جمع رسالة، وهي

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٤٣. وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧١.

صفحة رقم 143

ما يرسل إلى الغير من كلام أو كتاب. والمراد بها هنا: تبليغ ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه للناس.
قال الآلوسى ما ملخصه وقوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ.... استثناء من مفعول لا أملك...
وما بينهما اعتراض... فإن كان المعنى: لا أملك أن أضركم ولا أن أنفعكم، كان استثناء متصلا، كأنه قيل: لا أملك شيئا إلا بلاغا، وإن كان المعنى: لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد، كان منقطعا، أو من باب: لا عيب فيهم غير أن سيوفنا... أى: أنه من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وقوله وَرِسالاتِهِ عطف على قوله بَلاغاً وقوله:
مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفه له. أى: بلاغا كائنا من الله... «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة من يخالف أمره فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمرا به، أو نهيا عنه.
فَإِنَّ لَهُ أى: لهذا العاصي نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى: فحكمه أن له نار جهنم، وجمع- سبحانه- خالدين باعتبار معنى «من»، كما أن الإفراد في قوله فَإِنَّ لَهُ باعتبار لفظها.
وقوله: «أبدا» مؤكد لمعنى الخلود. أى: خالدين فيها خلودا أبديا لا نهاية له.
وقوله- سبحانه-: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً تهديد ووعيد للكافرين بسبب استهزائهم بالمؤمنين، فقد حكى القرآن عن الكفار أنهم قالوا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وقالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وحَتَّى هنا حرف ابتداء. وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام، وهو سخرية الكافرين من المؤمنين. وإِذا اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط، وهي في محل نصب بجوابه الذي هو قوله فَسَيَعْلَمُونَ.
والمعنى: أن هؤلاء الكفار لا يزالون على ما هم عليه من غرور وعناد وجحود... حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا والآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ من هو أضعف جندا وأقل عددا، أهم المؤمنون- كما يزعم هؤلاء الكافرون-؟ أم أن الأمر سيكون على العكس؟ لا شك أن الأمر سيكون على العكس، وهو أن الكافرين في هذا اليوم سيكونون في غاية الضعف والذلة والهوان.

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٩٤.

صفحة رقم 144

وجيء بالجملة التي أضيف إليها لفظ «إذا» فعلا ماضيا، للتنبيه على تحقق الوقوع.
والآية الكريمة تشير إلى خيبة هؤلاء الكافرين، وتلاشى آمالهم... فإنهم في هذا اليوم سيفقدون الناصر لهم، كما أنهم سيفقدونه من جهة أنفسهم، لأنهم مهما كثر عددهم، فهم مغلوبون.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله للمرة الرابعة، أن يعلن للناس أن هذا اليوم الذي يأتى فيه نصر الله للمؤمنين لا يعلمه إلا هو، فقال- تعالى-: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ. أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً....
أى: وقل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين إن نصر الله لنا آت لا ريب فيه، وعذاب الله لكم آت- أيضا- لا ريب فيه، ولكني لا أدرى ولا أعلم أيتحقق ذلك في الوقت العاجل القريب، أم يجعل الله- تعالى- لذلك «أمدا» أى: غاية ومدة معينة من الزمان، لا يعلم وقتها إلا هو- سبحانه-.
والمقصود من الآية الكريمة: بيان أن العذاب نازل بهم قطعا ولكن موعده قد يكون بعد وقت قريب، وقد يكون بعد وقت بعيد، لأن تحديد هذا الوقت مرده إلى الله- تعالى- وحده.
وقوله- تعالى- بعد ذلك: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً تعليل لما قبله.
أى: أنا لا أدرى متى يكون عذابكم- أيها الكافرون- لأن مرد علم ذلك إلى الله- تعالى- الذي هو عليم بكل شيء من الظواهر والبواطن، والذي اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه.
وقوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً استثناء من النفي في قوله: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.
أى: هو- سبحانه- عالم الغيب، فلا يطلع على غيبه أحدا من خلقه، إلا الرسول الذي ارتضاه واختاره من خلقه، فإنه- سبحانه- قد يطلعه على بعض غيوبه، ليكون ذلك معجزة له، دالة على صدقه أمام قومه.
فإذا ما أراد- سبحانه- إطلاع رسوله المصطفى لحمل رسالته على بعض غيوبه، سخر له من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من وسوسة الشيطان ونوازعه، ومن كل ما يتعارض مع توصيل وحيه- سبحانه- إلى رسله، بكل أمانة وصيانة.
ومعنى مَنِ ارْتَضى... : من اختار واصطفى واجتبى، وعبر عن ذلك بقوله مَنِ ارْتَضى، للإشعار بأنه- سبحانه- يخص هؤلاء الذين رضى عنهم ورضوا عنه بالاطلاع على بعض غيوبه، على سبيل التأييد والتكريم لهم.

صفحة رقم 145

و «من» في قوله مِنْ رَسُولٍ للبيان. والمراد بالرسول هنا: ما يشمل كل رسول اختاره- سبحانه- لحمل رسالته، سواء أكان من البشر أم من الملائكة.
والضمير في قوله- تعالى- فَإِنَّهُ ويَسْلُكُ يعودان على الله- عز وجل- وأطلق السلك على إيصال الخبر إلى الرسول المرتضى، للإشعار بأن هذا الخبر الذي أطلع الله- تعالى- رسوله عليه، قد وصل إليه وصولا مؤكدا، ومحفوظا من كل تحريف، كما يدخل الشيء في الشيء دخولا تاما بقوة وضبط، إذ حقيقة السلك. إدخال الشيء في الشيء بشدة وعناية...
والمراد بقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ جميع الجهات، وعبر عن جميع الجهات بذلك، لأن معظم ما يتعرض له الإنسان يكون من هاتين الجهتين.
والرصد: جمع راصد، وهو ما يحفظ الشيء، ويصونه من كل ما لا يريده، أى: إلا من ارتضى- سبحانه- من رسول، فإنه- عز وجل- يطلعه على ما يشاؤه من غيوبه، ويجعل له حراسا من جميع جوانبه، يحفظونه من كل سوء.
قال الآلوسى: قوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ... أى: لكن الرسول المرتضى بظهره- جل وعلا- على بعض الغيوب المتعلقة برسالته... إما لكون بعض هذه الغيوب من مباديها، بأن يكون معجزة، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية، وكيفيات الأعمال وأجزيتها، ونحو ذلك من الأمور الغيبية، التي بيانها من وظائف الرسالة.
بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك، حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين، لما أريد اطلاعه عليه... «١».
واللام في قوله- تعالى-: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ... متعلقة بقوله يَسْلُكُ.
والضمير في لِيَعْلَمَ يعود إلى الله- تعالى-، والمراد بالعلم: علم المشاهدة الذي يترتب عليه الجزاء، أى: أطلع الله- تعالى- من ارتضاهم على بعض غيوبه، وحرسهم من وصول الشياطين إلى هذا الذي أظهرهم عليه من غيوب... ليعلم- تعالى- علم مشاهدة يترتب عليه الجزاء، أن الرسل قد أبلغوا رسالته- سبحانه- إلى خلقه، وأنه- تعالى- قد أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أى: أحاط علمه- تعالى- بكل ما لدى الرسل وغيرهم من أقوال

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٩٦.

صفحة رقم 146

وأفعال، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أى: وأحصى كل شيء في هذا الكون إحصاء تاما، وعلما كاملا.
قال الشوكانى: قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ... اللام متعلقة بيسلك، والمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل، و «أن» هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والخبر الجملة، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول...
وقال قتادة: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو، وفيه حذف تتعلق به اللام، أى: أخبرناه ﷺ بحفظنا الوحى، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق.
وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم... «١».
ويبدو لنا أن عودة الضمير في «ليعلم» إلى الله- تعالى- هو الأظهر، أى: ليعلم الله- تعالى- أن رسله قد أبلغوا رسالاته علم مشاهدة كما علمه غيبا، لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع...
وهكذا ساقت لنا سورة «الجن» الكثير من الحقائق التي تتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والسلوك والأفكار التي طغى كثير منها على العقول والأفهام...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣١٣ للشوكانى.

صفحة رقم 147

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة المزمل
مقدمة وتمهيد
١- سورة «المزمل» هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول على النبي ﷺ فهي السورة الثالثة أو الرابعة، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق، ونون، والمدثر.
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين.
٢- وجمهور العلماء على أن سورة «المزمل» من السور المكية الخالصة، فابن كثير- مثلا- عند تفسيره لها قال: تفسير سورة «المزمل»، وهي مكية.
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين، فقد قال القرطبي: مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: هي مكية إلا آيتين منها، وهما قوله- تعالى-: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ....
وقال الثعلبي: هي مكية إلا الآية الاخيرة منها وهي قوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ.... فإنها نزلت بالمدينة «١».
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه: وقال في الإتقان: إن استثناء قوله- تعالى-:
(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٣١.

صفحة رقم 149

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ... إلى آخر السورة، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة...
ثم قال الشيخ ابن عاشور: وهذا يعنى أن السورة كلها مكية، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها، بمدة مختلف في قدرها، فعن عائشة أنها سنة... ومن قال بأن هذه الآية مدنية، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين...
والظاهر أن هذه الآية مدنية، لقوله- تعالى-:... وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة- إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة «١».
٣- والسورة الكريمة: زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلى من شأن القرآن الكريم، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة...
ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته- عز وجل- بعباده، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة.

(١) راجع تفسير التحرير والتنوير ج ٢٩ ص ٢٥٢ للشيخ ابن عاشور.

صفحة رقم 150
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية