والله هو الذي خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب، وجعل القمر نورا منيرا في سماء الدنيا، والشمس مصباحا مضيئا لأهل الأرض، للتمكن من العمل والتصرف من أجل المعايش.
وكما خلق آدم من أديم الأرض كلها، وتناسلت ذريته من بعده، يعيد الله الناس إلى الأرض موتى بالدفن في القبور، ثم يخرجهم منها بالنشور للبعث يوم القيامة. والعودة إلى دلائل الأنفس هنا كالتفسير لقوله: خَلَقَكُمْ أَطْواراً.
والله سبحانه جعل لعباده الأرض مبسوطة لسلوك الطرق الواسعة الميسرة فيها.
وقد بدأ هنا بدلائل الأنفس لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه وقد يبدأ بدلائل الآفاق لأنها أبهر وأعظم.
والخلاصة: أورد الله تعالى على لسان نوح عليه السلام أربعة أدلة على التوحيد: الأول- وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً والثاني- خلق السموات والشمس والقمر والثالث- الإنبات من الأرض والرابع- جعل الأرض منبسطة ذات طرق واسعة.
أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
الإعراب:
مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ.. وَلَدُهُ مفرد وقرئ: وَلَدُهُ بضم الواو وسكون اللام إما جمع «ولد» أو لغة في «ولد» كنحل ونحل وحزن وسقم وسقم.
وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ ممنوعان من الصرف للتعريف ووزن الفعل.
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ديار: فيعال من (دار يدور) وأصله:
(ديوار) فاجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء وجعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون (فعّالا) لأنه لو كان (فعّالا) لوجب أن يقال (دوّار) فلما قيل (ديّار) دل على أنه (فيعال) لا (فعّال).
البلاغة:
وَقالُوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً.. إلخ فيها ذكر الخاص بعد العام.
وعكسه ذكر العام بعد الخاص في قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وكلاهما من باب الإطناب.
المفردات اللغوية:
عَصَوْنِي فيما أمرتهم به. وَاتَّبَعُوا أي مجموع القوم الأدنياء. مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ وهم الرؤساء أو القادة المنعم عليهم بذلك. خَساراً خسرانا في الآخرة. وَمَكَرُوا أي الرؤساء، عطف على مَنْ لَمْ يَزِدْهُ والضمير لمن وجمعه للمعنى كُبَّاراً كبيرا في الغاية، عظيما جدا لأنهم كذبوا نوحا وآذوه ومن اتبعه.
وَقالُوا للأدنياء السفلة. لا تَذَرُنَّ لا تتركن. وَدًّا صنم لكلب. وَلا سُواعاً صنم لهذيل. وَلا يَغُوثَ صنم لغطيف بالجرف عند سبأ، أو لمذحج. وَيَعُوقَ لهمدان. وَنَسْراً صنم لحمير آل ذي الكلاع. وَقَدْ أَضَلُّوا الضمير للرؤساء بأن أمروهم بعبادتهم، أو للأصنام. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على قَدْ أَضَلُّوا أو على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي.
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل ذنوبهم وآثامهم. أُغْرِقُوا أي بالطوفان. فَأُدْخِلُوا ناراً. وهو عذاب الآخرة أو عذاب القبر. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي لم يجدوا غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب، وهو تعريض لهم باتخاذهم آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم.
دَيَّاراً نازل دار، أي أحدا، وهو مما يستعمل في النفي العام. إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً من يفجر ويكفر، كان هذا الدعاء بعد الإيحاء إليه. وَلِوالِدَيَّ وكانا مؤمنين. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي أو مسجدي أو سفينتي إذا كان مؤمنا. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. تَباراً هلاكا.
المناسبة:
بعد بيان أنواع الدلائل التي استدل بها نوح عليه السلام على توحيد الإله، أعلن نوح عصيان قومه، وحكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم، ومحورها العكوف على عبادة الأصنام والأوثان. ثم ذكر ما يستحقونه من دخول النار في الآخرة، والهلاك في الدنيا بعد دعاء نوح عليهم بذلك، ودعائه بالمغفرة السابغة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات.
التفسير والبيان:
قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي دعا نوح عليه السلام ربه قائلا: يا رب، إن قومي استمروا على عصياني، ولم يجيبوا دعوتي، واتبع الجمهور الرؤساء والكبراء وأهل الثراء، الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة.
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي مكروا مكرا عظيما كبيرا، وهو صد الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله، وإغراؤهم السفلة على إيذاء نوح وقتله.
وَقالُوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً
أي وقال الرؤساء للأتباع للإغراء بمخالفة نوح وعصيان أوامره وأقواله:
لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا رب نوح، ولا تتركوا بالذات عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
فكان ودّ لكلب، وسواع لهذيل، ويغوث لغطفان، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع. وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى «١» الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلما ماتوا وجاء آخرون، وسوس إليهم إبليس قائلا: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وكان عند العرب أصنام أخرى: أهمها اللات لثقيف بالطائف، والعزّى لسليم وغطفان وجشم، ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، وهبل أكبر الأصنام عندهم، فوضع فوق الكعبة.
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا أي وقد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس، وقيل: أضلت الأصنام كثيرا من الناس، فإنه استمرت عبادتها في القرون بين العرب والعجم إلى عهد النبوة، كما قال إبراهيم الخليل في دعائه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم ١٤/ ٣٥- ٣٦].
وناسب ذلك أن يدعو عليهم نوح عليه السلام لإضلالهم وضلالهم وكفرهم وعنادهم، فقال: ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب، فلا يهتدوا إلى الحق والرشد، وذلك كما دعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه في قوله:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٨٨].
ثم أبان الله تعالى جزاءهم وسبب الجزاء وهو إضلال الناس فقال:
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم، أغرقوا بالطوفان، ثم أدخلوا نار الآخرة، فلم يكن أحد يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.
وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي لما أيس نوح من إيمانهم، دعا عليهم بعد أن أوحي إليه ذلك، فقال: رب لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا يسكن الديار.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق، ولا يلدوا إلا كل فاجر في الأعمال بترك طاعتك، كثير الكفران في القلب لنعمتك، لخبرته بهم، ومكثه معهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
ثم دعا نوح عليه السلام لأهل الإيمان، وأعاد الدعاء مرة أخرى على الكفار، قائلا:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي رب استر علي ذنوبي واستر على والدي المؤمنين برسالتي، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن، ولكل المصدقين بوجودك ووحدانيتك ولكل المصدقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.
وقد شمل دعاؤه هذا كل مؤمن وكل ظالم إلى يوم القيامة.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقى».
ويستحب مثل دعاء نوح اقتداء به لجميع المؤمنين والمؤمنات من الأحياء والأموات.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا تجوز الشكوى إلا إلى الله عز وجل، ولذا شكى نوح قومه إلى ربه، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، داعيا لهم، وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء فيأتي بهم الولد بعد الولد، حتى بلغوا سبعة قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا.
٢- يقلد الناس في العادة قادتهم وكبراءهم، وقد اتبع قوم نوح رؤساءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة ومكروا مكرا عظيما بصرف الناس الأتباع عن الدين والإيمان، وبإغراء السفلة على قتل نوح عليه السلام.
٣- أصرّ قوم نوح على الكفر والعناد والتمرد وعبادة الأصنام، وتواصوا بعبادة الأوثان وترك عبادة الله، ولا سيما عبادة ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها، ثم عبدتها العرب.
٤- أكد نوح عليه السلام في شكواه أنه أضل كبراء قومه كثيرا من أتباعهم، لذا دعا عليهم بقوله: ولا تزد الظالمين الكافرين إلا عذابا «١» وخسرانا وضلالا عن
العذاب.
طريق أهل الجنة، أو ضلال مكرهم. وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون.
٥- إن خطايا وذنوب قوم نوح هي السبب في الإغراق بالطوفان ودخول نار جهنم بعد إغراقهم، فلم يجدوا حينئذ أحدا يمنعهم من عذاب الله.
٦- استدل بعض أهل السنة وهو القشيري بآية أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على إثبات عذاب القبر لأن إدخال النار حصل عقيب الإغراق، فلا يحمل على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة الفاء على التعقيب، ولأنه قال:
فَأُدْخِلُوا على سبيل الإخبار عن الماضي، وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك.
ورد الرازي بأن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل لأن المعنى صاروا مستحقين دخول النار، وأما التعبير بقوله: فَأُدْخِلُوا فهو عن المستقبل بلفظ الماضي، لتأكد وقوعه وصحة وجوده «١».
٧- قوله تعالى: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى لأن الآية تعريض بالمشركين الذين واظبوا على عبادة الأصنام، لتكون دافعة للآفات عنهم، جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله.
٨- دعا نوح على الكفار بالدمار والهلاك بعد أن يئس من اتباعهم إياه، وبعد أن أوحى الله إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود ١١/ ٣٦] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته. وهذا
كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم».
قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم على من
تحزب على المؤمنين وألّب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم، والله أعلم «١».
٩- دعا نوح أيضا لنفسه ولوالديه، وكانا مؤمنين، ولكل من دخل منزله مؤمنا، أو دخل مسجده ومصلاه مصليا مصدقا بالله تعالى، ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات عامّة إلى يوم القيامة.
ثم دعا أيضا على الكافرين في مقابلة أهل الإيمان بقوله: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي لا تزد الكافرين إلا هلاكا، وهذا عام في كل كافر ومشرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجنمكيّة، وهي ثمان وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الجن لتعلقها بأحوالهم فإنهم لما سمعوا القرآن، آمنوا به، ثم أبانوا علاقتهم بالإنس، ومحاولتهم استراق السمع، ورميهم بالشهب المحرقة، وغير ذلك من حديث الجن العجيب الذين منهم المؤمن ومنهم الكافر، والجن عالم لا نراه ولا طريق لمعرفة شيء عنه إلا بالوحي الإلهي. ويلاحظ أن تسميات السور تبعث على النظر والتفكير.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط بالسورة بما قبلها من وجهين:
١- قال الله سبحانه في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [١٠- ١١] وقال تعالى في هذه السورة لكفار مكة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [١٦].
٢- ذكر في السورتين شيء يتعلق بالسماء، كما ذكر فيهما عذاب العصاة، فقال تعالى في سورة نوح: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [١٥] وقال عز وجل هنا: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها... [٨] وقال في السورة المتقدمة: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً.. [٢٥] وقال هنا: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [٢٣]. صفحة رقم 155
ما اشتملت عليه السورة:
هناك موضوعان بارزان في السورة هما: الإخبار عن حقائق تتعلق بالجن، وتوجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تبليغه الدعوة إلى الناس.
افتتحت السورة بالإخبار عن إيمان فريق من الجن بالقرآن العظيم حين سمعوا تلاوته من النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته في منى بعد عودته من الطائف قبيل الإسراء والمعراج: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.. [الآيات: ١- ٢] فهو كما قالوا كتاب يهدي إلى الرشد.
ثم أبانت تمجيدهم الله عز وجل وإفرادهم له بالعبادة وتنزيههم له عن اتخاذ الصاحبة والولد، وتسفيههم من جعل لله ولدا وعلاقة الجن بالإنس: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.. [الآيات: ٣- ٧].
وأعقبت ذلك بالإخبار عن محاولات الجن استراق السمع من السماء، للتعرف على خبر العالم العلوي، ومنعهم منه لإحاطة السماء بالحرس الملائكي، وإحراقهم بالشهب النارية بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعجبهم من هذا الحديث السماوي، وتساؤلهم: هل يراد به تعذيب أهل الأرض: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ.. [الآيات:
٨- ١٠].
وصرح الجن بعدئذ بانقسامهم إلى فريقين: مؤمنين وكفار، مع تبشير المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وعزمها، وإنذار الكافرين المعرضين عن هدي الله وكتابه بالعذاب الشديد: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ.. [الآيات: ١١- ١٨].
ووصفوا تجمعهم حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمعوه يتلو القرآن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ.. [الآية: ١٩].