
العذاب، قاله السّدّيّ ومقاتل.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ٢٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
قوله عزّ وجلّ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي: تباعداً من الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والطاعة جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا صوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي: غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك واتِّباعي ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي: أعلنت لهم بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي: كرَّرت الدعاء معلناً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن عباس: يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل. في السِّرِّ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ قال المفسرون «١» : منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً قد شرحناه في أول الأنعام «٢» ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة.
قوله عزّ وجلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا تَرَوْن لله عظمة، قاله ابن عباس. والثاني: لا تخافون لله عظمة، قاله الفراء وابن قتيبة. والثالث: لا تَرَوْن لله طاعة، قاله ابن زيد.
والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزّجّاج.
قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئاً بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري: الطَّوْر: الحال، وجمعه: أطوار.
وقال ابن فارس: الطَّوْر: التارة، طوراً بعد طور، أي: تارةً بعد تارة. وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف
(٢) الأنعام: ٦.

المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قرّرهم، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «طباقٍ» بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف. وقد بيَّنَّا هذا في سورة الملك «١».
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فيه قولان «٢» : أحدهما: أن وجهَ القمر قِبَل السموات، وظهرَه قِبَل الأرض، يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله بن عمر. والثاني: أن القمر في السماء الدنيا. وإنما قيل: «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما. وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت في السّفن، قوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يستضيء بها العالم وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، وهو آدم نَباتاً قال الخليل: معناه: فنبتُّم نباتاً، وقال الزجاج: «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى، لأنّ المعنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتاً. قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر، لأنه جاء على نبت، ومثله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «٣» فجاء على «بَتَّل».
قال الشاعر:
وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلت منه | وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعاً «٤» |
وقال الآخر:
وإن شئتم تعاودنا عواداً
فجاء على «عاودنا»، وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى.
قوله عزّ وجلّ: سُبُلًا فِجاجاً قال الفراء: هي الطرق الواسعة.
قوله عزّ وجلّ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم «ووَلَده» بفتح اللام والواو. وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو، وسكون اللام. قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العَرَب، والعُرْب، والعَجَم، والعُجْم. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري:
«وَوِلْده» بكسر الواو، وإسكان اللام. قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٠٢: المقصود أن الله سبحانه خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر القمر منازل وبروجا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر، ليدل على مضي الشهور والأعوام. كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(٣) المزمل: ٨.
(٤) البيت للقطامي، وهو في ديوانه ٣٥ و «اللسان» - تبع-.