
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا... (٢٣)
حيث أوقعناها في الشدائد وكد العيش.
والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، قال الحسن هن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؛ بقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)، قال آدم ما

ذكر في الآية، وكذلك قال نوح: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقال إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) بعضه خرج على الأمر، وبعضه على السؤال، وكله على الدعاء والسؤال ليس على الأمر، وإن خرج ظاهره مخرج الأمر؛ لأن الأمر ممن هو دونه لمن فوقه دعاء وسؤال، وممن هو فوقه لمن دونه أمر، لو أن ملكًا من الملوك إذا أمر بعض خدمه بأمر أو بعض رعيته فهو أمر، وإذا أمره بعضُ خدمه أو رعيته - الأميرَ - شيئًا، فهو ليس بأمر، ولكنه سؤال ودعاء؛ فعلى ذلك دعاء الأنبياء - عليهم السلام - ربهم.
فَإِنْ قِيلَ: إن الرسل سألوا ربهم المغفرة لزلاتهم، فلا يخلو: إما أن أجيبوا في ذلك، أو لم يجابوا؛ فإن لم يجابوا فيما سألوا، فهو عظيم، وإن أجيبوا في ذلك - والمغفرة في اللغة: الستر - كيف ذكرت زلاتهم في الملأ إلى يوم القيامة؟
قيل: لوجوه:

أحدها: أنهم لما ارتكبوا تلك الزلات عظم ذلك عليهم، واشتغلت قلوبهم بذلك؛ لعظيم ما ارتكبوا عندهم، لم يخطر ببالهم عند سؤالهم المغفرة ستر ذلك على الناس، وكتمانها عنهم بعد أن أجاب اللَّه بالتجاوز عنهم في ذلك.
أو أن يقال: أراد بإفشاء ذلك وإظهاره إيقاظ غيرهم وتنبيههم في ذلك؛ ليعلموا أن الرسل مع جليل قدرهم، وعظيم منزلتهم عند اللَّه لم يحابهم في العتاب والتوبيخ بما ارتكبوا؛ فمن دونهم أحق في ذلك.
أو أن ذكر ذلك؛ ليعلموا أنه ليس بغافل عن ذلك، ولا يخفى عليه شيء، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، وقال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وقال: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، فأعلمنا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن آدم نسي أمر ربِّه؛ فقال قوم من أهل العلم: أكل آدم من الشجرة وهو ناس لنهي اللَّه إياه عن أكلها، وكان أكله منها ظلمًا منه لنفسه وعصيانًا لربِّه، وإن كان فعل ذلك ناسيًا.
ثم إن اللَّه تفضل على أمة مُحَمَّد؛ فرفع عنهم في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
وقال قوم يعني قوله: (فَنَسِيَ) أي: ترك أمر ربه من غير نسيان، وقالوا: هذا كقول اللَّه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم).
ولا ندري كيف كان ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الخطأ والنسيان في الأحكام موضوع بهذا الحديث، فيقال: فما تقولون في قتل الخطأ: هل فيه الدية والكفارة؛ وما تقولون في رجل

أفسد متاع رجل وأحرقه ناسيًا أو مخطئا؟
فإن قالوا: ذلك لازم عليه؛ قيل فكيف قلتم: إن الحديث جاء في الأحكام، وأنتم توجبون الضمان؟
وقَالَ بَعْضُهُمْ وجه الحديث عندنا: أن الأمم قبل أمتنا كانت مأخوذة بالخطأ والنسيان فيما بينها وبين ربها، فرفع اللَّه تعالى الحرج عن هذه الأمة في ذلك؛ تفضلًا منه علينا من بين الأمم، فأما الغرامات والضمانات في الأحكام التي بين الناس فهي لازمة لهم خطأ فعلوا أو عمدا، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) دلالة النقض على المعتزلة؛ لأنهم

يقولون: الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر. ثم من قوله: إن الرسل والأنبياء معصومون عن الكبائر، فزلة آدم لا شك أنها صغيرة لما ذكرنا، ثم قال: إن لم يغفر لكان من الخاسرين فإذا لم يكن له أن يعذبه فيصير وكأنه قال أجرمت وخطئت علينا لتكونن من الخاسرين، وفائدة تقدير آدم وحواء أن يكونا من الملائكة
صفحة رقم 389