آيات من القرآن الكريم

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ
ﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚ

القصة كالمعترض التي يؤتى بها استطرادا بين كلامين غير أنه لا يجوز طي حرف واحد من القرآن أبدا، وهكذا كل الآيات المدنيات في السور المكية كالآيات المكيات في السور المدنية، فتدبر هذا الكتاب العظيم وانظر مغزى قوله تعالى:
(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) الآية ٨٢ من سورة النساء في ج ٣. وسبب نزولها أن أبا جهل قال يوم بدر لأصحابه خذوا أصحاب محمد فاربطوهم بالحبال ولا تقتلوا منهم أحدا يقول الله تعالى ان ما صوره من قدرتهم عليهم كما صور أهل الجنة اقتدارهم على قطف ثمارها توبيخا لهم قال تعالى «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٣٤» جزاء عملهم بالدنيا. ولما سمع المشركون هذه الآية قالوا سنعطى في الآخرة إن كان هناك آخرة أفضل مما يعطى أصحاب محمد فكذبهم الله بقوله «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ٣٥» استفهام انكاري أي لا نفعل ذلك لأن التسوية بينهم غير جائزة فكيف يعطون أفضل وكيف نحيف بالحكم ونحن أعدل الحاكمين ونأمر عبادنا بالعدل. ثم قال استنكارا واستبعادا لحكمهم المعوج «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٦» وهذا استفهام آخر بمعنى التعجب من قولهم الناشئ عن فساد رأيهم وضلال فكرهم لأن حكمهم هذا لا يصدر عن عاقل قال تعالى «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ٣٧» تقرءون فتعلمون منه «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ» أي الكتاب «لَما تَخَيَّرُونَ ٣٨» من مأربكم وتشتهونه من آمالكم «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ» موثقة بالعهود ومؤكدة بالحلف عاهدناكم بها على ان نعطيكم ما ذكرتم فاستوثقتم بها «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تقطع أبدا «إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ٣٩» لأنفسكم في هذا الميثاق من الخير والكرامة ثم خاطب نبيه بقوله «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ٤٠» كفيل بأن لهم ما للمسلمين في الآخرة
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم منه أم لهم شهداء يشهدون بصدق دعواهم هذه فاذا كان لديهم شيء من ذلك «فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ» الذين يزعمون أن لهم تلك القدرة على ما يقولونه

صفحة رقم 84

«إِنْ كانُوا صادِقِينَ ٤١» في زعمهم والمعنى لا يسلم لهم أحد هذا القول ولا يساعدهم عليه أحد كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ولا عهد ولا كفيل وإذا كان عندهم شيء من ذلك فليحضروه «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» عن أمر فظيع يوم يشتد الكرب ويصعب الأمر وقد كنّى بالساق عن يوم القيامة لشدة هولها.
مطلب معنى الساق:
وقال بعض المفسرين إن الساق في السريانية الهزل ونقل بعضهم أنها عربية في هذا المعنى أيضا إلا أن معنى الآية لا ينطبق عليه وما جرينا عليه في تفسير الساق أولى من غيره لأن ابن عباس لما سئل عن معنى هذه الآية قال هو يوم كرب وشدة وإذا أخفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:

سنّ لنا قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
فان العرب لتقول عند الشدائد شمر عن ساقك، وقال ابو عبيدة لقيس بن زهير:
فإن شمرت لك عن ساقها فدتها ربيع ولا تسأم
وقال جرير:
ألا ربّ ساهي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمّوا
وكثر هذا المثل عند العرب حتى صار كالمثل السائر للأمر العظيم قال تعالى:
«وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» الذي أمروا به في الدنيا (في ذلك اليوم المهول) ولم يفعلوه مع قدرتهم عليه «فَلا يَسْتَطِيعُونَ ٤٢» عليه إذ تصير أصلابهم كصياصي (قرون) البقر لا تثنى عند الخفض والرفع فيعجزون عنه ولا يقدرون عليه «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» مطرقة إلى الأرض من شدة الخوف المحيط بهم أمره وإذ ذاك «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» تغشاهم حينما تسود وجوههم وتستنير وجوه المؤمنين «وَقَدْ كانُوا» في الدنيا «يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» فيسمعون داعي الله إلى

صفحة رقم 85

الصلاة ولا يجيبونه ليركعوا ويسجدوا له «وَهُمْ سالِمُونَ ٤٣» أصحّاء قادرون عليه ولا يفعلونه فلذلك منعوا منه في الآخرة لأنها ليست محلا للعبادة «فَذَرْنِي» يا حبيبي «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» القرآن الذي نطرفك به آونة بعد أخرى وسمي حديثا بالنسبة لحدوث انزاله وإلا فهو قديم أزلي، أي دعني وهذا المكذب، كله إليّ فأنا أكفيكه ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علي بالانتقام منه، وهذا تسلية لحضرة الرسول وتطمينا لضميره وتطبيبا لخاطره الشريف وتهديدا للمكذبين العائد لهم ضمير «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» نستدنيهم للعذاب درجة درجة ونستنزلهم له أولا بأول حتى نورطهم فتوقعهم فيه بما كسبت أيديهم وذلك ان الله تعالى يرزق العصاة أحيانا ويكثر نعمه عليهم فيجعلون هذه ذريعة لارتكاب المعاصي ويغفلون عما يراد بهم فيأخذهم على غرة «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ٤٤» أن الله لهم بالمرصاد لأنهم كلما ازدادوا من الذنوب جدّد لهم النعم فيغروا بها فينسون التوبة والاستغفار والشكر ويحسبون ذلك تفضيلا لهم على المؤمنين فيسبب هلاكهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج) وتلا هذه الآية.
مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد:
ولا معنى للقول بنسخها بآية السيف وكذلك آية (واصبر) الآتية لأنهما من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ وكذلك الآيات المشتملة على الوعد والوعيد وما فيه معنى التعجيل كقوله تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) الآية ١٠٩ من سورة البقرة في ج ٣ بإجماع علماء التفسير قال تعالى «وَأُمْلِي لَهُمْ» فأمتعهم بالنعم وأطيل أعمارهم وامهلهم فلا أعجّل عليهم «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ٤٥» قوي جدا لا يقدر الخلق على نقضه وليعلم ان ما جاء في القرآن من ألفاظ الكيد والمكر والخداع والنسيان من قبل الله تعالى عز وجل هي على سبيل المقابلة لأن ذاته تعالى منزهة عنها وقد أجريتها علي ظاهرها لمعلوميتها وقد آتي بما يراد منها لفظا أو معنى تقريبا لفهم القارئ

صفحة رقم 86

قال تعالى «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على تبليغ الرسالة لهم وإرشادك إياهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ٤٦» لا يستطيعون حمل تلك الغرامة المالية حتى يمتنعوا من الإيمان بك ويعرضوا عنك كلا لا تطلب منهم شيئا، فكان اعراضهم عنك عنادا وتكبرا ليس إلا، وهذه الجملة معطوفة على جملة (أم لهم شركاء) المارة «أم عندهم الغيب» بما هو باللوح المحفوظ لدينا «فَهُمْ يَكْتُبُونَ ٤٧» منه ما يحكمون به ويستغنون عن علمك، وهذا الاستفهام على طريق الإنكار أي ليس لهم ولا عندهم شيء من ذلك. وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من ٤٨ إلى ٥٠ النازلة في واقعة أحد مع الآيات ١٢٢ فما بعدها من آل عمران فى ج ٣ كما سنبينه هناك، قال تعالى «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» على أذى قومك وامهلهم «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» السيد يونس عليه السلام في الضجر والعجلة فتبتلى كما ابتليناه.
مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر:
واذكر «إِذْ نادى» ربه وهو في بطن الحوت الذي ابتلعه عقوبة استعجاله أمر ربه باهلاك قومه وغضبه لرفع العذاب عنهم وقد تركهم وذهب «وَهُوَ مَكْظُومٌ ٤٨» ممتلىء غيظا واعلم أنه «لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ» بإلهامه التوبة والندم واجابة دعائه الذي الهمناه إياه وهو في بطن الحوت كما سيأتي في الآية ٨٨ من سورة الأنبياء ج ٢ وقبول عذره الذي اعتذر به الآتي أيضا هناك «لَنُبِذَ بِالْعَراءِ» بفضاء من الأرض ولم ننبت عليه ما يقيه من الشمس والهواء مع ما هو عليه من الضعف الذي لحقه في بطن الحوت «وَهُوَ مَذْمُومٌ ٤٩» على ما وقع منه معاتب بما فعله مؤاخذ بزلّته، ولكن تداركته الرحمة فأنبت عليه ما أظله ووقاه، وحميته من كافة الهوام والوحوش كما حميته في بطن الحوت ولهذا فلم ينبذ مذموما، واعلم أن ما وقع منه يعد ذنبا بالنسبة لمقامه على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين وإلا فهو بالنسبة لغيره عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب

صفحة رقم 87
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية