آيات من القرآن الكريم

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ

والشدائد، ويكون قوله: (رَأَوْهُ) كناية عن ذلك اليوم، فذكر؛ لأن اليوم مذكر، وجعل " زلفة " بلفظ التأنيث؛ لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم.
وجائز أن يكون قوله: (زُلْفَةً)، أي: رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة عن الأوقات التي وعدرا فيها، فعلموا أنها كانت قريبة منهم وإن كانوا يستبعدونها في هذا اليوم، وهو كقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، وقال: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان قريبًا منهم.
وقوله: (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
فسيئت، من ساءت، أي: ساءت وجوههم، أو قبحت وجوههم بتغير ألوانها.
وقوله - تعالى -: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ).
قال أبو بكر الأصم: معناه: تمنعون وتدفعون كقوله تعالى: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، وقوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا): دفعًا.
وليس الأمر كما ذكره؛ لأنه لو كان من الدفع والمنع، لكان حقه أن يشدد العين، لا الدال كما شددت في قوله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فإذا شددت الدال دون العين، ثبت أن اشتقاقه ليس من " الدع "، ولكنه من " الادعاء "؛ إذ الدال هي المشددة؛ فتأويله - والله أعلم -: (هَذَا الَّذِي كنُتُم بِهِ تَدَّعُونَ)، أي: هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتدعون عليه أنه كاذب في الإخبار.
وجائز أن يكون قوله: (تَدَّعُونَ)، أي: تَدْعُون، وقد يستعمل الإدعاء مكان الدعوة؛ كما يقال: ذكر واذَّكر، وخبر واختبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨).
ففي هذه الآية دلالة أن في حكمة اللَّه مشيئة المغفرة والعقاب لمن ارتكب غير الكفر من الزلات، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة؛ لأنه قال: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) فأثبت فيه خيار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة، ومعلوم بأنه يهلك ومن معه أو يرحم عندما يبتلى بالزلات؛ وكذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؛ فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن توقَّى الكفر، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به.

صفحة رقم 130

والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا: أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة؛ لما فيه من السفه؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها.
أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة، والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة لذلك - لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها.
ولأن الكافر اختار عداوة اللَّه تعالى وكفران نعمه، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو، وفي ذلك تضييع الحكمة؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال، وأنه غير مستوجب للعذاب؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فاللَّه تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه؛ لاستحقاقه الإحسان، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم، وأن العذاب قد لزمهم، وأنهم مستوجبون للعقاب، فإذا عفا عنهم، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل اللَّه تعالى فيقع الإحسان موقعه.
ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته، ويخرج فعله هذا مخرج التذلل له، فلو لم يؤاخذ اللَّه الكافر بما تعاطى من الكفر، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل، واللَّه تعالى يجل عن هذين الوصفين؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) دلالة أن لله تعالى أن

صفحة رقم 131

يعذب على الصغائر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع من سبقه من الأنبياء - عليهم السلام - قد عصموا عن ارتكاب الكبائر؛ فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر فيهلكوا لأجلها؛ فثبت أنهم لو أهلكوا لأهلكوا بالصغائر، فلو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب أهل الصغائر، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما، وجل اللَّه تعالى عن الوصف بالجور، وقال - تعالى -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، ولو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب على الصغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - موضع الامتنان بما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ثم الحق أن يقال: إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لهم؛ لارتكابهم الكبائر، وإنما هذا الرجاء الذي ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام؛ لأنهم يقولون: لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لأهل الكبائر، ولا أن يتطول عليهم بالعفو، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين، وإذا كان هذا هو الحكم فيهم، فاللَّه تعالى إن غفر لهم ومن عليهم بالعفو، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم؛ لأن الذين ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر بل كانت صغائر؛ إذ لا يجوز المغفرة عن الكبائر؛ فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه، وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل آثامهم، فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه؛ فلا يكون فيه تضييع الإحسان، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا.
ثم قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا).
أي: قل إن أهلكني اللَّه ومن معي بما سبق من الأجرام والزلات، أو رحمنا بما سبق منا من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ) أي: أي شيء يجير الكافرين من عذابه، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها؟! أو فمن يجيرهم من عذاب اللَّه تعالى إن حل بهم؟! فكأنه قيل له: قل لهم: هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام؛ رجاء أن تنصرهم من العذاب الأليم، فيقول: لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم، واللَّه أعلم.

صفحة رقم 132
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية