لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣]. الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول، فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة، ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة إن قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فربط المعنى أن يقال أَلا يَعْلَمُ هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها، ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة، ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس. وقال ابن عطية: الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى. وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول، واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم: يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا
أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن. والفاء في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما: جبالها. وقال الحسن: طرقها وفجاجها. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي، ثم قال: فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذَلُولًا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق، والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة، والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل. وفي الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وإنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل، والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعير عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم. وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى (امشوا) وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك، واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب
وفي الحديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف»
وهذا لا ينافي التوكل. بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال:
من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتاكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عزّ وجلّ. وتمام الكلام في هذا الفصل في محله. والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى.
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عزّ وجلّ فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر، أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها، وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم. وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله عزّ وجلّ كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام
الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه»
ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عزّ وجلّ في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عزّ وجلّ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا وشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام؟ انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار. ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة. وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلّى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر. فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى. وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عزّ وجلّ بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك.
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي | دع الجهول يظن الجهل عدوانا |
والذهاب أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ألا ترى إلى قوله تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: ٢٢] قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب إنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم، والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم، ولعل ما أشير إليه أولا أولى فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان:
فأنذر مثلها نصحا قريشا | من الرحمن إن قبلت نذيري |
بات يعشيها بعضب باتر | يقصد في أسوقها وجائر |
العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها، وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه، ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة، وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال: نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول إنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط، وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بِكُلِّ شَيْءٍ على بَصِيرٌ للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ متعلق عند كثير بقوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: ٤٣] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه و (أم) منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة يَنْصُرُكُمْ صفة لجند باعتبار لفظه ومِنْ دُونِ الرَّحْمنِ على الوجه الأول أما حال من فاعل يَنْصُرُكُمْ أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: ٦٣] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، وأن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ أي الله عز وجل رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر مبادئه كالذي مر وقوله تعالى بَلْ لَجُّوا إلخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فِي عُتُوٍّ في عناد واستكبار وطغيان وَنُفُورٍ شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو إلخ عديلا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى ألم ينظروا في
أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله أن أرسل عليكم عذابه. وقال إنه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلّا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم اشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى (أم) متصلة و (من) استفهامية وجعل في الثانية (أم) منقطعة و (من) موصولة وهذَا الَّذِي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم، وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين. وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ [الرعد: ١٦] وأَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:
٨٤] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي. والزمخشري قال في الموضعين: أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن (أم) منقطعة والاستفهام تهكم، وكذلك لما قيل أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا، وكذلك قوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء، وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال، وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال: فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاعتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم... انتهى
ولعمري قد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع ويعجبني طرف تدر دموعه.
على فضله العالي فلله دره. وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل. وقرأ طلحة في الأولى «أمن» بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة وقوله تعالى أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغروز وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة، وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ و (من) موصولة مبتدأ ويَمْشِي صلته ومُكِبًّا حال من الضمير المستتر فيه، وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأَهْدى خبر (من) و (من) الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو، وقيل: مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت. والمكب الساقط على وجهه يقال: أكب خرّ على وجهه وهو من باب الأفعال، والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال: كبّه الله تعالى فأكب، وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته، واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته، وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها، وأنسل ريش الطائر ونسلته. وقال بعضهم: التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في ألأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة، ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره، وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة، وحكى ابن الأعرابي: كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس، والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخرّ على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته، أعني مكبا للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا. وفسر بعضهم السوي بمستوي الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك: العسل أحلى من الخل. والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك. وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة.
وروي أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه».
وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك وَيَقُولُونَ من فرط عتوهم ونفورهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي العلم بوقته عِنْدَ اللَّهِ عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: ١٨٧] وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، وهذا نظير قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: ٤٠] إلّا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى زُلْفَةً حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة، وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر. وقال الراغب:
الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين، وقيل زلفة لهم. واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى. ولا زلفة في كلا القولين سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسبها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل الساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع الكسائي كسر سين «سيئت» الضم وَقِيلَ توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر. وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب «تدعون» بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: ٣٢] إلخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله:
ولا يقيم على خسف يراد به | إلا الأذلان عير الحي والوتد |