
يأمره بمراجعتها، وذكر أنها صوامة قوامة؛ فجائز أن تكون حفصة - رضي اللَّه عنها - تصوم النهار وتقوم الليل في غير نوبتها؛ فلا يعلم بذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأطلعه جبريل - عليه السلام - على ذلك.
وروي عن أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر وعمر "، رضي اللَّه عنهما.
وقيل: هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وذكر عن الحسن أنه قال: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) من لم يسر نفاقا ولا أظهر فسقا، ثم خص من المؤمنين الصالحين منهم، ولم يعم جملة المؤمنين، فهذا - واللَّه أعلم - لأنه لو ذكر المؤمنين على الإجمال لدخل فيه الزوجان اللتان تظاهرتا؛ لأن إصغاء القلب لا يخرجهما عن أن تكونا من جملة المؤمنين؛ ولأنه ذكر هذا في موضع المعونة في أمر الدِّين، وصالح المؤمنين هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدِّين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥).
وعلى قول المعتزلة: لا يملك أن يبدل خيرا منهن؛ إذ لا يقدر على أن يجعل في أحد خيرا على قولهم، ولا يملك أن يبدله أزواجا؛ لأنه لا يقدر -على زعمهم- على أن يجعل أحدا من النسوان زوجة لأحد من الرجال، وإنَّمَا المشيئة والاختيار إلى المتزوج والمتزوجة، والفعل منهما.
وعلى قولنا: يملك أن يجعل الخير لمن شاء فيما شاء، وله أن يجعل من النسوان زوجة لمن شاء من الرجال، فهذه الآية تشهد بالصدق؛ لمقالتنا، وترد على المعتزلة قولهم؛ لأنه جعل الإبدال إلى نفسه؛ بقوله: (يُبْدِلَهُ)، وعلى قولهم لا يملك أن يفي بما وعد، ثم في هذه الآية إباحة الإبدال وإباحة الطلاق لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، حظر الإبدال؛ فجائز أن يكون قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، مقدما، وقوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) متأخرًا؛ فيصير ما تقدم منسوخا بهذه الآية، والذي يدل على صحة هذا ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: " ما خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا حتى أحلت له النساء "، فثبت أن الحظر كان متقدما ثم وردت الإباحة من بعد، فتحمل الآيتان على التناسخ؛ ليرتفع التناقض من بينهما.

وجائز أن يكون حظر عليه الإبدال إذا قصد بالطلاق قصد الإبدال بما أعجبه من الحسن؛ كما قال: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ...) الآية، فإذا كان قصده من الطلاق الإبدال، كان ذلك محظورا عليه، وإذا لم يقصد بالطلاق قصد الإبدال، ولكن يقصد به قصد المجازاة للخلاف الذي ظهر، أبيح له ذلك، ثم اللَّه تعالى يبدله خيرا من المطلقة وهو ليس يقصد بالطلاق في قوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) قصد الإبدال، وإذا كان كذلك، سلمت الآيتان عن التناقض.
وذكر عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه سئل: أكان يحل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إبدال امرأة بامرأة؟ فقال: بلى، فسئل عن قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، فقال: هذا منصرف إلى من هن من وراء المسميات؛ وهو كقوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ...) إلى قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)، فذكر بنات العم وبنات الخال والأجنبيات، وحظر عليه من سواهن من المحارم، فيكون فيه إبانة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان حظر عليه تزوج محارمه من ذوي الرحم كما حظر على غيره؛ إذ هو موضع الإشكال: أنه لما حل له زيادة على الأربع، يحل له ذوات الأرحام من المحارم، فزال الإشكال به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَيْرًا مِنْكُنَّ).
فجائز أن يكون خيرا منهن للرسول - عليه السلام - لا أن يكن خيرا في أنفسهن؛ لأنه قال: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ)، وقد كان أزواجه على هذا الوجه: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ)؛ ألا ترى إلى ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، والذي يدل على هذا أيضًا في آخر هذه الآية: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) وقد وجدت هاتان الصفتان في أزواجه؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا.
وجائز أن يكن خيرا منهن أيضًا في أنفسهن من حيث الجمال والنسب، ونحو ذلك.
أو يصرف (خَيْرًا مِنْكُنَّ) لما يتركن الخلاف لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يتظاهرن عليه، ويكن هَؤُلَاءِ دونهن إذا التزمن الخلاف، ودُمْنَ على التظاهر، فأما إذا أمسكن عن الخلاف وتُبْنَ عما سبق من الخلاف فهن وغيرهن بمحل واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ).

قد بينا أن كل مسلم مؤمن في التحصيل؛ لأن معنى الإسلام والإيمان واحد؛ إذ الإسلام: هو أن يجعل الأشياء كلها لله خالصة سالمة لا يشرك فيها غيره، والإيمان: التصديق، وهو أن يصدق أن اللَّه تعالى رب كل شيء، وإذا صدقته أنه رب كل شيء فقد جعلت الأشياء كلها سالمة له، أو تصدق كلًّا فيما يشهد لله تعالى في الربوبية بجوهره، فثبت أن كل واحد منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر من المعنى، فإذا ذكر أحدهما بالإفراد، فقي ذكره ذكر الآخر، وإذا جمع في الذكر، صرف هذا إلى وجه، وهذا إلى وجه، وهذا كما ذكرنا في التقوى أنه يقتضي معنى الإحسان إذا ذكر مفردا؛ لأن التقوى هو أن يتقي من المهالك، والاتقاء عن المهالك يقع باكتساب المحاسن، وإذا ذكرا معا صرف التقوى إلى الاتقاء من الكفر والإحسان إلى فعل الخيرات، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه "، وقال: " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده "، فصرف هذا إلى وجه وهذا إلى وجه، وهما في التحصيل واحد؛ لأنهم إذا أمنوا بوائقه فقد سلموا من لسانه ويده.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَانِتَاتٍ).
قيل: مطيعات.
وقيل: القائمات بالليالي للصلاة، وهذا أشبه؛ لأنه ذكر السائحات بعد هذا، والسائحات
الصائمات، وذكر الصيام بالنهار، فيكون تأويل القانتات راجعا إلى قيام الليل؛ ليكون فيه إحياء الليل والنهار بالعبادة؛ ولذلك قال جبريل - عليه السلام - في وصف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " إنها صوامة قوامة " أي صوامة بالنهار وقوامة بالليل، وذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: " طول القنوت "، وهو القيام بالليل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَائِبَاتٍ).
هن اللائي لا يصررن على الذنب، بل يفزعن إلى اللَّه تعالى بالتوبة والتضرع إذا ابتلين بالخطيئة.
وقوله: (عَابِدَاتٍ).